كتاب جدير بالقراءة والمناقشة، ذلك الذي افتتح به مركز “المقاصد للدراسات والبحوث” سلسلة منشوراته بالتعاون مع الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الموسوم ب”مقاصد المقاصد” لكاتب يوصف بأنه فقيه الوسطية والاعتدال الدكتور أحمد الريسوني، المعروف باهتماماته العلمية والعملية ذات الارتباط الوثيق بعلم الأصول ومقاصد الشريعة، إلى درجة أن المسافة بين الجوانب النظرية والجوانب التطبيقية (=السياسية والاجتماعة) في فقهه المقاصدي تكاد تكون شبه منعدمة، فالرجل ولج باب المقاصد بدافع أسئلة حارقة أملتها عليه نزعته الحركية الإسلامية التي تطلبت منه تقديم أجوبة فقهية وشرعية لعدد من القضايا الحديثة والمسائل المعاصرة التي وجد نفسه كفاعل إسلامي مجبراً على التفاعل “الشرعي” مع مختلف تفاصيلها.

هكذا يكون الكتاب المذكور قد جاء استجابة لواقع فقهي وفكري وسياسي، أو لنقل ثقافي يعرف تكثيفاً لاستعمال مفهوم “مقاصد الشريعة”، بمناسبة وبدون مناسبة، وفي جمل مفيدة وأخرى غير مفيدة؛ كما أن توظيف مختلف الفاعلين، ل”الرصيد المقاصدي” يتم لغايات متناقضة وأهداف متباعدة، الأمر الذي يخلق فوضى في الفهم وتشويشاً على الفعل المنبثق عن ذلك الفهم.

إن الطلب المتزايد والمتنامي، على “الفقه المقاصدي” يستوجب، في نظر الريسوني، “الحاجة إلى الترشيد والتسديد لهذه الحركة المقاصدية، حتى تحقق مقاصدها وفوائدها ولا تحيد عنها”؛ وكأنه يستبق خطراً محدقاً بما يتيحه هذا “الفقه” الذي بدأ يتميز ويتخذ “شكل علم أو تخصص علمي مستقل”، من إمكانات تأويلية مبهرة للشريعة الإسلامية، وقراءات مدهشة لنصوصها.

يتعلق الأمر بمحاولة لتوجيه “المد المقاصدي”، والتحكم في أغراضه ومآلاته، حتى لا تنعكس سلباً على “استقرار الأحكام والثوابت الشرعية، ومنظومتها الفقهية الأصولية”؛ وذلك نظراً لما يصفه الريسوني ب”الريبة المشروعة التي يثيرها بعض الخائضين في مقاصد الشريعة والمتحمسين لها بلا حدود”.

هل يتعلق الأمر بمحاولة لغلق باب الاجتهاد والتأويل العقلي التي فتحها الاكتشاف ‘المعاصر” للمنهج المقاصدي، أم بمحاولة للتحكم في هذه الدينامية وتوجيهها بما يتلاءم و”مقاصد” قبلية ومسبقة خاصة بالمشروع العلمي والعملي الذي ما فتئ الريسوني يعلن انتماءه له؟

في قراءته لنشأة علم الأصول ومقاصد الشريعة دافع الدكتور عبد المجيد الصغير عن أطروحة مفادها أن كل طرق المعرفة في الإسلام، ومن ضمنها المعرفة الأصولية والفقهية، تؤدي إلى السياسة، ويمكننا أن نزيد على ذلك بالقول إنها تنطلق منها، اعتباراً للعلاقة الجدلية بين الفقه والواقع، التي تجعل الإنتاج الفقهي إنتاجاً معرفياً “قصدياً”، يضطلع بوظائف اجتماعية وسياسية، ظاهرة كانت تلك الوظائف أو مضمرة.

انطلاقاً مما سبق نستطيع تأويل مقاصد “مقاصد المقاصد” على ضوء التطورات الاجتماعية والسياسية التي تعرفها بلدان الربيع العربي، التي تعرف مداً حركياً إسلامياً قوياً وواضحاً، انتقل فيه الإسلاميون من مواقع الظل والمعارضة إلى دوائر الضوء والقيادة.

سيكون متسرعاً من يعتقد أن المقصد الرئيسي من كتاب الريسوني محاولة علمية لتكميم أفواه خصوم الإسلاميين، الذين أدركوا أن المعركة مع قوى “الإسلام السياسي” ينبغي خوضها على من داخل التراث الإسلامي ذاته وليس من خارجه، مستثمرين ما يمكن أن تتيحه “المنهجية المقاصدية” من ممكنات لاختراق عدد من الطابوهات والمقدسات عند الإسلاميين.

لاشك أن هذا المقصد حاضر عند الريسوني، خاصة وهو الفقيه الحركي، المعروف بمواكبته الدائمة والمستمرة لمختلف حيثيات الصراع بين الإسلاميين وخصومهم، لكننا نعتقد أن هناك مقصداً أسمى من ذلك عند الريسوني دفعه إلى كتابة رسالته “مقاصد المقاصد” في هذه المرحلة التاريخية بالذات.

لقد أبدى عدد من المثقفين والمفكرين ميولات واضحة لاستثمار علم مقاصد الشريعة لمواجهة المشروع السياسي للإسلاميين، قبل الربيع العربي بسنوات كثيرة، ومع ذلك لم يكلف فقيهنا نفسه عناء كتابة قول مخصوص لهذه المحاولات، فما الذي استجد من مستجدات جعلت فصل المقال في “مقاصد المقاصد” من أوجب واجبات الوقت عند أحمد الريسوني؟
إن الجديد في اعتقادنا هو أن الكتاب محاولة استباقية ل’الانفلات المقاصدي” المتوقع عند إسلاميي السلطة في بلدان الربيع العربي؛ الغرض منها “إلجام” أهواء هؤلاء السلاطين الجدد من الإفراط في التوظيف السياسي للنصوص الإسلامية وأحكامها الشرعية.

وبيان ذلك أن الإسلاميين الذين تبوؤوا مواقع السلطة والمسؤولية أصبحوا مطالبين بتقديم إجابات لعدد من القضايا الواقعية والمسائل المجتمعية، ولم يعد بإمكانهم الاختفاء وراء شعار عام، يقول كل شيء ولا يقول أي شيء، وهو شعار”الإسلام هو الحل”، بل يتعين عليهم تصريفه في برامج سياسية واجتماعية واضحة وقابلة للقياس والملاحظة.

ولأن زمن التدبير اليومي للسلطة لا يرحم ولا يحتمل الانتظار حتى تجود الساحة باجتهادات “إسلامية صرفة” حول قضايا المجتمع المستعجلة، لم يجد إسلاميو الربيع بداً من “الاستنجاد” بأفكار وتدابير كانوا حتى الأمس القريب يقدحون فيها وفي أهلها أو في أحسن الحالات لا يترددون في إعلان تحفظهم عليها. وحيث إن عدداً من تلك المواقف يصعب إيجاد سند لها في “الأصول”، فلا مانع عند رجل السياسة الإسلامي من التذرع بمقاصد الشريعة من أجل تبريرها وتسويغها.

إن ما يعزز هذا المنحى السياسي في قراءة كتاب الريسوني هو تصريحاته المبثوثة في فقرات مختلفة من كتابه، يمكننا أن ندرج منها نموذجين اثنين، أولهما قول الريسوني إن “مقاصد الشريعة اليوم، يخوض فيها ويستعملها كثيرون من غير المختصين (…) فيأتون بالغرائب والعجائب من الآراء والنظريات والفتاوى “المخرجة تخريجاً مقاصدياً” !”.

إن المتأمل في المؤهلات العلمية للحكام الإسلاميين في الأقطار العربية يجد أن أغلبهم متخصص في المعارف التقنية والعلمية الحديثة و”أشبه بالعوام” في العلوم الشرعية، الأمر الذي يكون معه إنتاجهم لأقاويل فقهية ينذر بمخاطر الإتيان بما حذر منه الريسوني من “الغرائب والعجائب”.

أما ثاني هذه النماذج فهو قوله، في سياق تفسيره لدوافع تأليفه الكتاب، بأن ما شد عزمه على “المضي في هذا الباب وتأليف هذا الكتاب، سؤال وردني من الأخ العزيز الدكتور وصفي عاشور، قال فيه: “هل يجوز استخدام المقاصد وحدها لبيان الحل والحرمة، أم أن المقاصد آلية فهم وتفسير، وأداة للترجيح عند التعارض (…) سؤال خطير ينتظر إجابة شيخ المقاصديين”.

لم يتردد “شيخ المقاصديين” والمقصود به، حسب السائل، الفقيه أحمد الريسوني، في كتابة رسالة هي أشبه ما تكون برسالة الشافعي في أصول الفقه التي رمت، من بين ما رمت إليه، وضع حد لشهية رجل السياسة المنفتحة، بلا ضابط ولا مبدأ، وفي كل عصر وزمان، للتوظيف الإيديولوجي للنص الديني.

إن عناية أحمد الريسوني بمقاصد الشريعة ليست وليدة اليوم، بل هي نتاج تراكمي معرفي يناهز الثلاثين سنة، فقد نشر سنة 1987 كتاب “نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي”، وفي التسعينيات أنجز أطروحة لنيل دكتوراه الدولة عنوانها “نظرية التقريب والتغليب وتطبيقاتها في العلوم الإسلامية”، بالإضافة إلى عدد من الدراسات والمقالات العلمية في العلم المقاصدي.

وبالرغم مما تتيحه هذه الكتابات من ممكنات مذهلة للتكيف مع روح الحداثة، وما تبثه من نزعة عقلانية منفتحة، فإن كتابات الريسوني “المقاصدية” لا يظهر لها الأثر الكبير على الفكر السياسي للإسلاميين المغاربة، وكأني به ينطبق عليه ما وصف به هو نفسه الزعيم علال الفاسي في كتابه “علال الفاسي عالماً ومفكراً”، حيث لاحظ هيمنة الصورة السياسة وعناية الناس بها، أما “الصورة العلمية والفكرية للزعيم علال، وما تزخر به من ضروب الجهاد والاجتهاد، فهي باهتة ومهملة منذ البداية !”.

وإذا لم يكن في استطاعتنا نكران المفعول العلمي لكتابات الريسوني خارج المغرب، خاصة في بلدان الخليج العربي، حيث اتخذها عدد من الشباب السعودي سلاحاً للتأصيل للحداثة والديمقراطية ومواجهة الأطروحات الوهابية والسلفية في عقر دارها؛ فإننا لا نجد مفراً من الجزم بأن صاحب “فقه الثورة” يظل أبعد ما يكون عن التأثير في واقعه المغربي الذي ترعرعت فيه معظم أفكاره، باستثناء بعض الأوساط “العلمية” الضيقة، ولا يتجاوز حضوره التغطية الإعلامية المثيرة لبعض آرائه حول السياسية والفقهية في قضايا آنية لا غير.

لقد عرف الريسوني بدفاعه الشديد عن مشروعية “المنهجية الأصولية” في الفهم والتأويل، وهو الأمر الذي لا يتراجع عنه في هذا الكتاب، بل عاد ليؤكده وبقوة: “فالفقه بلا مقاصد فقه بلا روح، والفقيه بلا مقاصد فقيه بلا روح، إن لم نقل إنه ليس بفقيه. والمتدين بلا مقاصد تدينه بلا روح، والدعاة إلى الإسلام بلا مقاصد، هم أصحاب دعوة بلا روح”.

يجد احتفاء الريسوني الكبير ب”المقاصد”، كما يدل على ذلك صريح كلامه السالف، تفسيره في الحاجة التي كانت قائمة خلال العقود الأخيرة من القرن الماضي، إلى إقناع قوى الإسلام الحركي بفائدة هذا “العلم” كسلاح فعال في معاركهم النظرية والعملية.

أما اليوم وقد أدرك رجل السياسة الإسلامي، مثله مثل أي رجل سياسة يتمتع بحس عملي وبراغماتي، مدى فعالية هذا “المنهج”، مما ينذر بخطر التوظيفات “الشعبوية” له في بورصة الصراعات السياسية والإيديولوجية؛ فإن الحاجة تستوجب “ضميمة” موضحة ومفسرة، بل ضابطة ومتحكمة في مسار هذا العلم.

من أجل هذه الغاية خصص الريسوني الفصل الأول من كتابه لبيان مقاصد المقاصد في فهم الكتاب والسنة، ليبين أن ليس هناك مقاصد للشريعة خارج نصوص القرآن والسنة، وإنما “التوجه المقاصدي الحق لابد أن يكون “نصوصياً” أكثر من أي توجه آخر، ولذلك فإن من لا يعولون على النصوص الشرعية في استخراج مقاصد الشريعة الإسلامية لا يمكن عدهم من “أهل المقاصد”.

أما الفصل الثاني فقد خصصه لبسط مقاصد المقاصد في الفقه والاجتهاد الفقهي، معتبراً علاقة المقاصد بالفقه كعلاقة الروح بالجسد؛ فالمقاصد هي الروح والفقه الحي هو الجسد الذي تجري المقاصد في دمائه، لكن أي توظيف للمنهج المقاصدي في الاجتهاد الفقهي لا يعتمد النص الشرعي في البداية والنهاية يعد، في نظر الريسوني، انحرافاً عن مقاصد المقاصد.

أما الفصل الثالث والأخير، فقد خصصه الريسوني للمقاصد العلمية للمقاصد، حيث أكد فيه أن العلوم المنبثقة عن الدين، ومن ضمنها علم المقاصد، لا تطلب لغايات معرفية خالصة، بل لابد “أن تكون ذات مقاصد عملية ومردودية عملية”، وفي مقدمتها “ترشيد السياسة الشرعية”.

إن تخصيص الريسوني لمبحث كامل لما سماه ب”ترشيد السياسة الشرعية” يؤكد بما لا يترك مجالاً للشك، مشروعية القراءة “السياسية” لكتابه الذي بين أيدينا، على ضوء مستجدات الوضع السياسي في دول الربيع العربي. ولعل من الملاحظات الجديرة بالذكر هنا، هو أن فقيه المقاصد تعمد الإكثار من الاستشهاد بنصوص علماء كبار من أمثال الشاطبي والعز بن عبد السلام والطاهر بن عاشور، خلاله بيانه لمقاصد “مقاصد القرآن والسنة والاجتهاد”، في حين قلل من تلك الاستشهادات إلى الحد الأدنى، ليفتح المجال لآرائه الشخصية ورؤاه الخاصة للموضوع، مادامت المسائل السياسية المطروحة على طاولة النقاش الفقهي المعاصر لا تنفع معها، لا آراء الشاطبي ولا فتاوى ابن تيمية في السياسة الشرعية، باعتبارها كانت من “اللامفكر فيه” في الزمن الماضي.(2)

هكذا نجده يؤكد على “أن كل من يقود العمل السياسي (…) يجب أن تكون مقاصد الشريعة عنده هي الميزان”، منبهاً إلى “ما يصدر اليوم باسم الشريعة (…) من مواقف وتصرفات” لا تخلو من “الخلل والقصور”، ترجع إلى “ضحالة العلم بمقاصد الشريعة”.

هل نحتاج إلى القول إن المقصود بالمواقف السياسية التي “تصدر باسم الشريعة” هي تلك الصادرة عن الفاعلين الإسلاميين المعاصرين، خاصة أولئك الذين قذفت بهم رياح التغيير الديمقراطي إلى مراكز القرار والسلطة؟

لسنا في حاجة إلى بذل أي جهد للتدليل على سلامة هذا المنحى التأويلي لكتاب الريسوني، طالما أن الأخير يوجه خطابه مباشرة إلى هؤلاء الفاعلين، مبيناً لهم “حاجة الفكر السياسي والسياسة الإسلامية إلى مزيد من الوعي المقاصدي والنظر المقاصدي” الذي يتعدى الوقوف عند ظاهر مقاصد الشريعة إلى مقاصد مقاصدها الحقيقية، لأن العبرة ليست بالبدايات فقط، بل بالعواقب والنهايات أيضاً.

هكذا يقف الريسوني مطولاً عند قضية “تولي بعض المناصب المهمة (…) الملوثة بالفساد والحرام”، علماً أن الفساد السياسي والإداري والاقتصادي عنصر بنيوي في دول الاستبداد العربي التي تربع الإسلاميون على عروش السلطة فيها، ليؤكد أن “المعتمد المعتاد هو الفتوى بتحريم هذه المناصب والوظائف”، لكنه يستدرك قائلا إنه: “حين يكون الداعي لتولي هذه المناصب والوظائف، هو داعي الإصلاح والمصلحة العامة”، فإن معيار الحكم والتقويم يكون هو “القصد الإصلاحي” المتمثل في جلب “المصالح والفوائد، ودرء المظالم والمفاسد”.

وكخاتمة لهذه القراءة الموجزة نستطيع القول إنه بقدر ما كان الريسوني ليناً ومتساهلاً مع إسلاميي السلطة، موفراً لهم الغطاء “الشرعي المقاصدي” لتولي مناصب واعتلاء مواقع يحيط بها الفساد من كل جانب، بقدر ما كان متشدداً وصارماً مع هؤلاء الإسلاميين من جهتين اثنتين، أولاهما: أنه لا مجال لتبرير التعايش مع الفساد والتماهي معه والمساهمة في استمراره باسم مقاصد الشريعة، وثانيتهما أن العبرة في تولي المناصب والمسؤوليات بعواقبها في “درء المفاسد وجلب المصالح”، معتبراً مع ابن القيم أن “السياسة ما كان فعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد”.

 

رابط المقال :

https://www.hespress.com/writers/80954.html

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق

السلة

لا يوجد منتجات في سلة المشتريات.