إن الفكرة القائلة بأن للدين نزعة تشجع على العنف فكرة رائجة، وتشكل جزءًا من الحكمة الشائعة والمتعارف عليها في المجتمعات الغربية، وتبرز هذه الفكرة بوضوح في العديد من المؤسسات والسياسات الغربية. إن ما يطلق عليه وليام كالفانو «أسطورة العنف الديني» هي الفكرة القائلة بأن الدين، بما هو سمة عابرة للثقافة والتاريخ، مختلف جوهريًا عن السمات العلمانية كالسياسة والاقتصاد، وذلك لأنه يحمل ميلاً مخصوصًا وخطيرًا نحو العنف. ومن ثم فلا بد من كبح جماحه ومنعه من الوصول إلى السلطة العامة. هكذا تظهر الدولة القومية العلمانية باعتبارها طبيعية، متوافقة مع الحقيقة الكونية العابرة للزمن حول الأخطاء المتأصلة في طبيعة الدين.
يتحدّى كالفانو في هذا الكتاب هذا الجانب من الحكمة الشائعة المتعارف عليها من خلال تفحصه الدقيق لسؤال: كيف تم تأسيس ثنائية الديني والعلماني في المقام الأول؟ وكيف تم اختراع مقولة «الدين في الغرب»، وفي السياق الاستعماري وفقًا لترتيبات معينة للسلطة السياسية؟
هل الدين ينزع نحو العنف؟
ينقسم الكتاب إلى مقدمة وأربعة فصول، ويتفحص المؤلف في الفصل الأول المعنون بـ «تشريح الأسطورة» حججًا لتسعة من أبرز الأكاديميين المؤيدين لفكرة أن الدين بشكل شبه حصري ينزع نحو العنف. تتوزع الأمثلة عبر عدة حقول علمية وتقدم تفسيرات متنوعة لسبب نزوع الدين نحو العنف: الدين إطلاقي، والدين انقسامي، والدين غير عقلاني. يرى كافانو أن جميع هذه المقولات تعاني من نفس الخلل، وهو: عدم القدرة على إيجاد طريقة مقنعة للفصل أو التمييز بين العنف الديني والعنف العلماني؛ فجميع الحجج التي تفحصها تعاني من تناقضات داخلية، ويفترض معظمها وجود جوهر ثابت للدين، ومن ثم فبالإمكان فصل الدين عن الظواهر العلمانية اعتمادًا على طبيعة الاعتقاد الديني.
يُظهر كالفانو كيف أن هذا التمييز ينهار تلقائيًا في تحليلات جميع الأكاديميين محل الفحص. بعض المؤلفين يناقشون – بسبب رؤيتهم للتناقضات المنطوية داخل المفاهيم الجوهرانية للدين – استعمال مفهوم وظيفي للدين، ومن ثم فإنهم يوسِّعون مفهوم الدين ليضم الأيديولوجيات والممارسات التي يطلق عليها عادة علمانية، كالقومية والاستهلاكية. نتيجة لذلك، يغطي مفهوم الدين عمليًا كل ما يقوم به البشر لإسباغ المعنى والنظام على حياتهم. ويختم كالفانو محاججته بالقول إن مفهوم الدين في هذه الأعمال فضفاض إلى درجة لا تمكّنه من خدمة أية أهداف تحليلية.
ويرى كالفانو أن البشر يتقاتلون لأسباب تند عن الإحصاء. والمقاربة المقبولة لهذه المشكلة ستكون إمبريقية بشكل صارم: ضمن أي الظروف تقوم اعتقادات وممارسات معينة – الجهاد، «اليد الخفية» للسوق، فداء المسيح، دور الولايات المتحدة كحامية لحرية العالم – بممارسة العنف؟
هل يمكن فصل مفهوم الدين عن السياق العلماني؟
يقدم كالفانو في الفصل الثاني تفحصًا جيناولجيًا لمفهوم الدين، معتمدًا على الأعمال المتزايدة حول الكيفية التي تم بها تشكيل المفهوم في أمكنة وأزمنة مختلفة وفقًا لترتيبات مختلفة للسلطة. إن المزاعم المختلفة حول العنف الديني تقوم على فكرة أن الدين يحافظ على ذات الجوهر عبر الزمان والجغرافيا، وأنه نظريًا على الأقل منفصل ومتمايز عن الوقائع العلمانية؛ أي المؤسسات السياسية على سبيل المثال.
يقدم الفصل الثاني أدلة متعددة على استنتاجين أساسيين؛ أولهما: هو أنه لا وجود لهذا «الدين» العابر للتاريخ والثقافة والمنفصل جوهريًا عن السياسة. لكل دين تاريخه، وما يتم اعتباره أو لا يتم اعتباره، جزءًا من الدين في أي سياق من السياقات هو أمرٌ يعتمد على الترتيبات المختلفة للسلطة والقوة. وثانيهما هو أن محاولة القول بأن ثمة مفهومًا للدين عابرًا للتاريخ والثقافة، وأنه مفهوم منفصل عن الظاهرة العلمانية، هو بحد ذاته جزء من ترتيبات معينة للسلطة، متعلقة بالدولة القومية الليبرالية الحديثة كما تطورت في الغرب. في هذا السياق، تم التأسيس للدين باعتباره عابرًا للتاريخ والثقافة، وباعتباره شأنًا داخليًا وشخصيًا منفصلاً بطبيعته عن الشأن العام والعقلانية العلمانية؛ فقد ساهم تأسيس المسيحية كدين في فصل ولاء الفرد للرب عن ولائه في الحيز العام للدولة القومية.
والفكرة القائلة بأن للدين نزوعًا للعنف – ومن ثم ينبغي أن يُقصى من المجال العام – هي أحد أشكال التأسيس الجوهراني للدين. ويرى كالفانو في هذا السياق أن المسيحية قد تم تأسيسها كدين بينما لم يتم اعتبار القومية دينًا تساعد في ضمان أن يبقى ولاء المسيحيين العمومي للدولة القومية. ولابد من تفحص الفكرة القائلة بأن للدين نزوعًا خاصًا للعنف، باعتبارها جزءًا من الشرعية الأيديولوجية للدولة القومية الغربية.
وقد تم استعمال تقسيم ديني – علماني في الغرب لتهميش نوع خاص من الممارسات باعتبار أن طبيعتها غير عقلانية وعنيفة بالقوة، ومن ثم ينبغي خصخصتها (أي جعلها جزءًا من المجال الخاص) لإخلاء المجال العام لأنشطة أكثر “عقلانية” وسلمية للدولة والسوق كما يُظهر الفصلان التاليان، فإن لأنشطة السلطة والسوق عنفها الخاص الذي تحجبه أسطورة العنف الديني.
حروب دينية أم سياسية؟
في الفصل الثالث، يتفحص كالفانو واحدًا من أبرز الأمثلة التي يتم الاستشهاد بها تاريخيًا علة العنف الديني، وهي «الحروب الدينية» في القرنين السادس عشر والسابع عشر في أوروبا؛ فقصة هذه الحروب تعمل كنوع من الأسطورة المؤسسة للدولة الحديثة. وفقًا لهذه الأسطورة فقد تقاتل البروتستانت والكاثوليك بسبب اختلافاتهم المذهبية، وهو ما يكشف عن الطبيعة العنيفة والعنيدة للاختلافات الدينية. وبعد ذلك، جاءت الدولة الحديثة كصانعة للسلام داخل هذه العملية، محيلة الدين إلى حيز الحياة الخاصة، وجامعة للبشر من مختلف الأديان حول الولاء للدولة ذات السيادة.
يتفحص كالفانو هنا حقيقة هذه القصة عبر تفحص السجلات التاريحية؛ فالقضية أعقد مما تصوره هذه الصورة المبتسرة. ويظهر القسم الأول من الفصل الثالث كيف تمت رواية قصة الحروب الدينية من قِبل المفكرين الحداثيين الأوائل أمثال هوبز، ولوك، وروسو، ومن قبل المنظرين السياسيين المعاصرين أمثال جون رولز وفرانسيس فوكوياما. ويبين كالفانو أنه رغم وجود بعض الاختلافات، فإن جميع هؤلاء المفكرين يقدمون الحروب الدينية باعتبارها صراعًا بين الكاثوليك والبروتستانت بسبب المعتقدات الدينية، وباعتبار أن المخرج من هذه الحروب كان صعود الدولة العلمانية الحديثة.
يظهر كالفانو في هذا الفصل كيف تضمنت الحروب الدينية معارك بين الكاثوليك بعضهم بعضًا وكذلك بين اللوثريين، كما تضمنت تحالفات بين الكاثوليك والبروتستانت. وفي ضوء هذه الصورة يظهر كالفانو مدى لا معقولية الفكرة القائلة بأن انتقال السلطة من الكنيسة إلى الدولة كان حلاً ومخرجًا من حروب القرنين السادس عشر والسابع عشر. لقد كانت عملية بناء الدولة، والتي بدأت بالفعل قبل عصر النهضة، عملية محل نزاع بطبيعتها. فبدءًا من نهايات حقبة القرون الوسطى، تضمنت العملية إدماج القوى المبعثرة تحت حماية الحاكم، كما تضمنت ترسيم الحدود الخارجية في وجه الدول الأجنبية الأخرى.
ولا يشير كالفانو هنا إلى أن تلك الحروب كانت تدور حول السياسة وليس حول الدين، كما لا يدافع عن فكرة أن الدولة هي من تسبب في الحروب، في حين كانت الكنيسة بريئة منها. ولكن ما يشير إليه كالفانو في هذا المقام أن انتقال السلطة من الكنيسة إلى الدولة لم يكن هو الحل لعنف القرنين السادس عشر والسابع عشر، وإنما كان سبب تلك الحروب؛ فصعود الدولة الحديثة لم يكن إعلانًا عن أوروبا أكثر سلامًا، ولكن صعود الدولة قد ترافق مع انزياح في القيمة التي يقاتل البشر ويموتون من أجلها.
العنف الديني
في الفصل الرابع والأخير، يتتبع كالفانو استعمالات أسطورة العنف الدينية في نقاشات المحكمة العليا للولايات المتحدة منذ أربعينيات القرن المنصرم. يلحظ كالفانو في هذا السياق أن الدين كان ينظر لها عمومًا باعتباره قوة توحيدية، ونوعًا من الرباط الذي يربط الأمة معًا. ولكن منذ الأربعينيات، بدأ شبح العنف الديني يُستحضر في قضية تلو الأخرى بما فيها بند الدين المندرج في التعديل الأول للدستور، كما تحركت المحكمة لحظر الصلاة في المدارس، ومنع مساعدات الدولة عن المدارس الكنسية، ومنع المظاهر الدينية في المباني الحكومية. ويحلل كالفانو في الفصل الرابع كذلك كيف أسهمت أسطورة العنف الديني في تأسيس الآخر غير الغربي وفي شرعنة العنف ضده، ويقدم مجموعة من الأمثلة حول الطريقة التي يُستعمل بها هذا المنطق لتبرير التدخلات العسكرية الغربية في العالم الإسلامي.
يؤكد كالفانو في الختام أنه لا يهدف من هذا الكتاب إلى إنكار فضائل الليبرالية أو إعفاء الأنظمة الاجتماعية الأخرى من الرذائل، ويؤكد كذلك على أنه يعتقد أن الفصل بين الكنيسة والدين هو أمر جيد في العموم، ويؤكد كالفانو كذلك على أنه لا يمتلك بديلاً لاهوتيًا سياسيًا ليقدمه في هذا الكتاب، لكنه يهدف أساسًا إلى تفكيك أسطورة العنف الديني بغية تحقيق مجموعة من الفوائد: أولها تحرير الدراسات العلمية عن العنف من تشوه مقولات الديني والعلماني، وثانيها المساعدة في رؤية أن الإمكانات الرئيسية للأنظمة الاجتماعية في العالم الإسلامي، وفي الغرب لا تنحصر في الخيار الصارم بين الثيوقراطية والعلمانية. كما أن تفكيك أسطورة العنف الجيني سيساعد في النظر إلى غير العلماني والديني المتعصب، كما أنه سيشكك في مشروعية الحرب ضدهم، وبالتالي يسهم في تجسير الهوة الخطيرة بين الطرفين.
رابط المقال :