مقدمة الطبعة العربية
زيغمونت باومان
خمسة عشر عاماً مضت
قبل رحيل الفيلسوف وعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان منذ سنتين ، ومنذ بداية الشبكة العربية للأبحاث والنشر مشروع ترجمة مؤلفاته إلى العربية، اختص الشبكة العربية وبالتحديد كتاب “الحداثة السائلة” بمقدمة خاصة وجهها للجمهور العربي ، وقامت الشبكة العربية للأبحاث والنشر بترجمتها، من خلال الدكتور حجاج أبو جبر. وتعيد الشبكة العربية للأبحاث والنشر ، نشر المقدمة من جديد لإتاحتها بشكل مستقل لجمهور القرآء.
هذه الترجمة العربية لكتاب الحداثة السائلة ثمرة جديدة لأكثر من عشرة أعوام قضاها حجاج أبو جبر بصبر وشجاعة في طلب التبادل المثمر بين الأفكار ورؤى العالم. إنها ثمرة هدف نبيل، بقدر ما هي حاجة ملحة لا غنى عنها في عالمنا الذي تتعدد فيه الرؤى والثقافات يوماً بعد يوم، ويحكمه الارتباط المتبادل في سائر أنحاء الكوكب هذه الأيام…
صدر كتاب الحداثة السائلة عام 2000، وكان (إذا ما استعرنا الصيغة الوجيزة التي قالها هيغل عن مصير/مهمة الفلسفة) محاولة تسعى إلى “فهم زمن متغير”، محاولة ترمي إلى “فهم” الصدمة التي صدرت عن الانتقال من حالة متمايزة من طرق الحياة الإنسانية إلى حالة أخرى. وهذا الكتاب يبدو الآن قصة على الطريق التي نسلكها، فقد كُتب في خضم الانتقال من ظروف حياتية تبدو مألوفة ومعلومة إلى ظروف “مجهولة” مفزعة ومعاناة شديدة. إنها ظروف “مجهولة” لأنها تُسقط الأطر والمقولات المعرفية التي كانت تُستخدَم في استيعاب الحضور المُعطى للوجود (Vorhanden). وهي بذلك تمثل تحديّاً باعتبارها تجربة غير مألوفة تعود إلى العالم الاستعمالي (Zuhanden) الذي صدرت عنه وانحرفت، عالم بلغ من الوضوح ما يجعله غير قابل للملاحظة (“فالحالة الطبيعية” الجديرة بهذا الوصف لا يمكن ملاحظتها؛ ذلك لأن الانحراف عن الرتابة والانتظام والتكرار والتوقع هو ما يُخرج “الحالة الطبيعية” من ضبابيتها اللاشعورية ويضعها في ضوء النهار).
وربما يكون أفضل وصف لكتاب الحداثة السائلة أنه قصة سفر، قصة انتقال أو عبور، قصة الاتساع التدريجي المتواصل للمسافة التي تفصل الظرف الحياتي الحالي عن نقطة انطلاقه، قصة وضع إنساني يصير مختلفاً عما نعرفه أو ظننا أننا نعرفه. تلك القصة سجّلت محاولة فهم “الجديد” عبر استيعاب تباعده الوليد عن “القديم”. تلك السردية تتبع هذا الدافع وتحدد لنفسها هذا الهدف، ولا مناص لها من جعل الوضع الحياتي القديم المتراجع أبرز الأبطال الرئيسين في القصة، حتى وإن كان ذلك عبر نفيه وإنكاره ورفضه. أما ذلك الوضع الإنساني القديم الذي ظلّ على حاله على الرغم من تغير ما حوله فكان، إذا جاز التعبير، نفياً فوتوغرافياً يعكس الوضع الجديد الناشئ. إن “إيجابية” ذلك الانعكاس كانت ثانوية بوجه عام، فهي تتألف من “عمليات النفي” وحدها. فبلا استثناء تقريباً، كانت السمات المرصودة/المنسوبة إلى التجربة الجديدة الغريبة المحيّرة هي السمات المرتبطة بالواقع المتلاشي عبر وصفه بعلامات سالبة وعبارات من قبيل “لم يعد…”، “وعلى النقيض من …”، “وفي مقابل …”، “وعلى العكس من …”. فمهما كانت أشكال الحضور الواردة في قائمة الواقع الجديد، فإنها تبدو جزراً منفصلة ومنعزلة مبعثرة في بحر من الغياب. وكل الأبطال الأكاديميين على شاكلة روبنسون كروزو ممن أُلقي بهم على ساحل جزيرة مماثلة، وأنا من بينهم، وجدوا أدوات بقيت من السفن التي تحطمت وغرقت على سواحل الجزر المهجورة (التي حظيت أغلبيتها بالتعميد – وكأنها تتبع نموذج بطل دانييل ديفو- (؟في؟) “جزر اليأس”)، وحظاً كبيراً من البراعة والمهارة والنباهة اللازمة للتعامل معها، كُلها جرى اكتسابها وحفظها في الذاكرة بمفردات أكثر جدة من حداثة أرض الوطن الإنكليزية في القرن السابع عشر التي شهدت شروع روبنسون الأول في استكشاف المجهول.
لعلّ أبرز أشكال الغياب وأهمها وأوثقها صلةً بالواقع الوليد الذي ترسمه سردية الحداثة السائلة تتمثل في حالة الصلابة وانعكاسها الوجداني/الذهني: اليقين. فدور القوة الدافعة الرئيسة، المتهمة بتغييب الصلابة وانعكاسها من القصة، يتمثّل في عملية التحديث الذي يستمد قوّته الدافعة من داخله، أي إذابة وتمييع مجموعة كبيرة ومتنوعة من الكيانات الثابتة المستقرة أو الكيانات التي تستمد بقاءها واستمراريتها من داخلها على نحو ثابت (البُنى الاجتماعية، والروابط الإنسانية، والنماذج السلوكية، والنماذج القيمية، وما إلى ذلك). ناهيك بما يترتب على ذلك التمييع من إضعاف لقوتها وقبضتها على النموذج الإنساني للوجود في العالم، فكان التحديث المتواصل، منذ بدايته وحتى يومنا هذا، السمة البارزة للحداثة. وهكذا فإن ما تتميز به طريقة الحياة الحديثة عن أنماط الحياة السابقة السائدة يكمن في التحديث الوسواسي القهري الإدماني- إنه يكمن، دعوني أكرر، في الإذابة المتواصلة والإحلال السريع للبُنى والنماذج الذائبة.
بدأت عملية الإذابة تلك -وهنا تكمن المفارقة- تحت راية الكفاح من أجل الوصول إلى الصلابة وترسيخها: كفاح ضدّ تفكيك الروابط الإنسانية والمنظومات الاجتماعية وتقطيعها، كفاح ضد “تفكيك النُظم” وما يتبعه بالضرورة من فقدان الأمن الوجودي. في أثناء ذلك الكفاح، حُدِّدت البُنى المتوارثة من أجل إذابتها وصهرها، لا لأن الروح الحديثة تكره الصلابة في حدّها، بل لأنّ هذه البنى لم تكن صلبة بما فيه الكفاية، أو كان يُظن أنها كذلك، وهو ظنّ قطعت به التجربة المتراكمة لتدهور النظام القديم، وعجزه القاطع، وتداعيه البيّن في نهاية المطاف -كما صوّره ألكسي دو توكفيل ببراعة.
في المراحل الباكرة من العصر الحديث، كان ثمة اعتقاد بأنّ الإذابة المعتادة ليست سوى منغّصات مؤقّتة، كانت ثمناً ثقيلاً، وحتميّاً للأسف، لا بد من دفعه لقاء تذاكر السفر التي تكفل الوصول إلى حالة الكمال-حالة تنتظر الإنسانية في نهاية المطاف الحافل بمعالم أتى بها صبّ المعدن المنصهر في قوالب جاهزة: أشكال صلبة كل الصلابة، ضدّ الصدأ والتلف والتآكل، وضدّ كل ما يمكن أن يؤدّي إلى النقصان والتشويه والتعطيل والتعجيز. فقد قامت فكرة الوصول إلى حالة الكمال في العصر الحديث على الافتراض القديم لدى أرسطو بوجود كلية مزودة بالأجزاء الضرورية الكاملة المُثلى كافة. وبذلك صار أي تعديل جديد غير وارد، ولا يمكن تصوّره لأنه سيُفسد الكلية الكاملة القائمة، فتصبح فكرة “التغيير للأفضل” عبارة تنطوي على تناقض لفظي-فحالة الكمال لا بد من أن تظل ساكنة وثابتة، مرة وللأبد، محصنة من التغيير أو إغواءاته. فالانقسام داخل الحالة الكاملة أمر غير وارد، ولا يمكن تصوره، فلا علة له، ولا سبب، ولا حجة، ولا أساس… فالحالة النهائية التي تنقطع عندها أشكال الاضطراب كافة الناجمة عن عمليات الإذابة وإعادة التشكيل والإحلال كان لا بد من أن تكون نتاج العقل الهادئ وشرطاً للهدوء الذي يحقّقه العقل: حالة صلبة لأنها لا تتزعزع صلبة إلى درجة لا تضاهيها الحالات الصلبة التي سجلها التاريخ البشري.
يتحول أفق التحديث إلى نشاط صاخب مضطرب مُهوس (؟مُهَوَّس؟) ومَهووس بعمليات الإذابة والتمييع، ومن ثم فإن إزالة خط النهاية (أو أي خط من خطوط النهاية) من أفق التحديث هي ما تميّز الحداثة في مرحلة “السيولة” عن الحداثة في مرحلة “الصلابة”. فالقائمون على التحديث في الوقت الراهن لا يرغبون في إنهاء نشاطهم، بل إن هدفهم واهتمامهم، على العكس من ذلك تماماً، يتمثّل في الحفاظ على قوتهم وحيويتهم وقدرتهم على مواصلة العمل والطفرات التحديثية بلا نهاية-وهكذا فهم يُقزِّمون الاهتمامات والأهداف الأخرى كافة ويهمّشونها، بل ويرحّبون بإهمالها أو استبعادها تماماً، فلا أهمية لها، ولا حاجة إليهم بها.
هنا يمكننا أن نقارن الاختلاف بين الاهتمامات القيمية والبراغماتية للحداثة في مرحلتيّ الصلابة والسيولة بالاختلاف بين الصحة واللياقة. فأما الصحة فترمي إلى حالة مثالية تحتاج، فور الوصول إليها، إلى حماية من أي تغير (بالزيادة أو النقصان)، وأما اللياقة فترفض أشكال الثبات كافة، ولا تعترف بأية حالة يُقال إنها نهائية لا تقبل بتعديل جديد أو لانهائي، ففي هرم القيم الذي يحدّد أداء اللياقة، تُخلع عن العرش فكرة الأمن التي تقوم على الحصانة من الاختلالات والتغيرات الدائمة، وتتربع على العرش فكرة الحرية التي تقوم على المرونة. وهكذا يحتل انعدام الراحة مرتبة أعلى من أي شكل من أشكال الراحة، والتغير مرتبة أعلى من أي ثبات مهما كان يبعث على الراحة والمتعة والأمن، والإبقاء على الخيارات مفتوحة مرتبة أعلى من أي التزام ثابت بأي خيار من خيارات النظام-مهما كانت جاذبيته ووجاهته وقطعيته.
تبدو الحداثة السائلة نفياً قطعياً للحداثة الصلبة، لكن إذا أمعنا النظر، واتخذنا مسافة زمنية تسمح لنا بفحصها في مجملها، ربما يتضح لنا أنها تذكرنا بالمُركّب الجدلي (Synthesis)-الناتج من تأليف الموضوع (Thesis) ونقيضه (Antithesis) في الدائرة الجدلية عند هيغل-فالحداثة السائلة أكثر من مجرد نقيض للحداثة الصلبة. واقع الأمر أنها تعكس هرم القيم الذي اتخذته الحداثة الصلبة، لكنها تحقق هدفها الواضح أو الكامن-وإن كانت تفعل ذلك على نحو لا يتوقعه من يعبرون عن ذلك الهدف ويشرحونه، ويسعون إلى تحقيقه، ويجدون حياتهم في السعي إلى تحقيقه.
بعد فترة من زيادة السرعة التي تسير بها عمليات الإذابة/التمييع الجنونية إلى درجة تجعل إعادة تجميد الكتلة المنصهرة الناشئة أمراً مستحيلاً (فترة يمكن أن تكون نقيضاً أصيلاً للحداثة الصلبة)، جاءت الحداثة السائلة لتضع في قالب مادي (تُشيِّئ) التصور الحداثي الصلب لنظام يستبعد البدائل كافة، بل ويُلغيها، مجرِّداً إياها من واقعيتها (أي من القوى التي تجعلها ممكنة ومعقولة)، ومحرِّماً الرغبة فيها (من جانب القوى التي تتمنى أن تجعلها حقيقة واقعة وتستطيع ذلك). لقد ذاب ميراث الحداثة الصلبة كله في أثناء الإذابة والتمييع-باستثناء الهوس بالإذابة وإدمانها ووسواسها القهري، الذي ارتقى الآن إلى مرتبة القاعدة الطبيعية الملزمة ومبدأ النظام الجديد المستقر، بل والدائم الراسخ. إنه نظام يبدو تمثيلاً مغايراً وساخراً تماماً لنيات الحداثة الصلبة، ولا يمكن الشك في شرعية وجوده-بعدما أعلن أنه يمثّل نهاية التاريخ، وسعى جاهداً إلى أن يجعل هذا الإعلان نبوءة تحقق نفسها، مؤكداً غياب أي بديل له.
في ذلك النظام الجديد، المرونة هي الثبات الوحيد، والزوال هو الدوام الوحيد، والسيولة هي الصلابة الوحيدة، وباختصار شديد: اللايقين هو اليقين الوحيد. فثمة أكثرية كبيرة ومتزايدة (تكاد تكون ساحقة) لا ترى في ذلك النظام وجوداً وليداً ناشئاً، بل واقعاً عصيباً سريعاً يعيشونه، واقعاً يتسق ونموذج “الحقائق الاجتماعية” التي وصفها إميل دوركايم بأنها تفرض نفسها بقوة إلزام شامل لا يقبل النقاش-قوة لا تقل في غلظتها وقهرها عن الأجسام المادية الصلبة، فلا يمكن تجاهلها أو التخلص منها. فثمة أغلبية متزايدة من أهل كوكب الأرض ولدت في ذلك النظام الثابت، وجرى “تطبيعها”، و”تطبعها”، ومن ثَم فهي تُسلِّم بذلك النظام مثلما تُسلِّم بالأشياء كافة في العالم الاستعمالي (Zuhanden). فوصف هذا النظام بصفة “الوليد الناشئ” يستعصي فهمه على الإنسان البسيط في المجتمع المعاصر، تماماً مثلما يستعصي عليه فهم الحداثة الصلبة “المتلاشية”. فهذا الفهم تُرك بوجه عام لمؤرِّخي الأزمنة الحديثة. وربما يجد أهل هذا الزمان في تصوير الواقع الاجتماعي كما جاء في كتاب الحداثة السائلة لقطة فوتوغرافية لمجتمع في حركة وتغير، في فترة انتقالية قصيرة ربما أوشكت على الاكتمال…
زيغمونت باومان
نيسان/أبريل 2015
ليدز– المملكة المتحدة