علم الاجتماع السياسي
موضوع هذا الكتاب هو رسم نوع من اللوحة العامة لعلم الاجتماع السياسيّ. ويعني هذا القيام بعملية تركيب لإسهامات المدارس الفكرية المختلفة، والتعلريف بالاتفاقات اللغوية الريبية التي بُني حولها تقليدٌ علمي أصيل. وبالتالي فالكتاب يتوجه إلى نوعين من الجمهور: الأول يتكون من طلاب الدراسات السياسية والقانون والعلوم الإنسانية الذين يتوفرون على حدٍ أدنى من الاشتراك الفكري مع موضوعه، والجمهور الثاني ذو حدود أكثر تشوشًا مثل الصحفيين والساسة الذين تكمن فائدة علم السياسة بالنسبة لهم في شحذ نظرهم وطرق تفكيرهم وتعاملهم مع الواقع.
علم الاجتماع السياسي هو منظور واحد فقط، منظور واحد من بين منظورات أخرى ممكن يمكن الاطلال منها على الموضوع السياسي. وثمة عدة خطب رئيسية ممكن عن الموضوع السياسي يلخصها المؤلف في:
*خطاب الفاعل المتلزم:ويقصد بها خطاب المناضلين والممثلين المنتخبين والقادة والمثقفين المتورطين في معارك سياسية، ويمتاز خطابهم بتركيزه على جانب تبرير العمل، أي تبرير تصرفاتهم السياسية بشكل يضعها في سياق مصلحة من يمثلونهم.
*خطاب الفيلسوف أو النبي: وهو خطاب يتأسس على القيم، فبينما يتساءل السياسي بابتذال: “كيف يعمل هذا؟” يكون سؤال الفيلسوف/النبي المركزي: “ما هي الحكومة الجيدة؟”، “كيف نتصور المستقبل الجماعي الذي يؤمِّن التضامن والعدالة؟”.
*الخطاب الإعلامي: وهو الخطاب السائد اليوم فيما يخص علم السياسة، ويعني به المؤلف الطريقة التي يُقاد بها الصحفيون المحترفون لعرض الأحداث السياسية، واقتراح تفسيرات لها، والقيام، بشكل خاص بصياغة شبكات قراءة، ومنظومات أسئلة. ويمتاز هذا الخطاب بتركزيه على جذب انتباه القارئ وبالتالي فإن هذا الخطاب يخضع لمتطلبات أولية تتجلى في الجذب والإقناع وأن يكون مفهومًا من قبل الجمهور الـمُستهدف.
وإذا كان الخطاب العلمي عن الموضوع السياسي لا يمكنه التطلع إلى شرعية اجتماعية عليا، فإن له فائدة نوعية في المجتمع. إن منطقه المؤسس هو بالفعل منطق التفسير. ويمكن فهمه بطريقة علمية كمحاولة طموحة لكشف ماهو حقيقي. إن عمل التفسير يمكن تصوره، بطريقة أكثر ملائمة، وفي آنٍ واحدٍ، كمشروع تنقية للنظرة التي تسمح بالرؤية أكثر أو أوسع، بفضل اعتماده على تقنيات تقصٍ وتأمل صحيحة في شروط صحة نتائجه. هذه المتطلبات تفترض وجود إخلاص ثابت لأخلاق معينة، من العقيم السعي للبرهنة على صحتها الموضوعية. إن النزاهة والوضوح العلميين هما رهانان يهدفان كما يقول ماكس فيبر إلى: “فك السحر عن العالم”، ولهذا بالطبع نتائجه “الخيرة” على تطور المنظومات السياسية على أرض الواقع.
وبعد أن حدد فيليب برو هدف الكتاب في الدراسة العلمية لمدارس علم السياسية ورؤاها المختلفة تجاه مواضيعه تناول بالفحص السياق التاريخي لتطور هذا العلم مركزًا على جذوره الفرنسية على نحو خاص
السياق الأول تمثّل في الجدل الذي دار في فرنسا في نهايات القرن التاسع عشر بين إميل بوتمي، مؤسس المدرسة الحرة للعلوم السياسية، وكلود بيفنوار الفيه المؤثر في سلطات التعليم العالي. فقد كان الأول يدافع عن الاستقلال القوي ” للعلوم السياسية التي تعد “في أغلبيتها الساحقة اختبارية واستقرائية”؛ أما الثاني فكان يشدد على القرابة الوثيقة بين العلوم السياسية والقانون العام.
ثمة سياق أخر تمثل في جدل أخر حول اختلاف طبيعة النظرة للعلوم السياسية أو بالأحرى الخلط بين الفلسفة السياسية وعلم السياسة. إن نفوذ الفلسفة السياسية، من أفلاطون إلى روسو، وحتى المثالية الألمانية في القرن التاسع عشر (فيخته، وهيجل) يتجه إلى امتصاص علم السياسة، دون قيد أوشرط، في خطاب نظري أو تأملي متمحور حول “ما يجب أن يكون”، أكثر من تمحوره حول “ماهو كائن”. هذه الطريقة في التقريب بشكل حميم بين الفلسفة السياسية وعلم السياسة، تجهل، كما قيل الفرق العميق بين المنطق الفكري لخطابٍ متمحور بشكل رئيسٍ حول أحكام القيم، ومنطق خطاب متجه، بالعكس، نحو تفسير السياقات السياسية الفعلية.
أما السياق الثالث فهو مرتبط بتطور علم الاجتماع الحديث في الفترة الحاسمة لتكون العلوم الاجتماعية الحديثة (1830 – 1900) على يد آبائه الأربعة الكبار فرديناند تونيز وماكس فيبر وإميل دوركهايم وجورج زيمل، ويمكن أن نضيف إليهم أليكسس دو توكفيل وكارل ماركس. فمؤلفاتهم لا تدين للحس التأملي التنويري بالشيء الكبير في مقابل طموحها الواضح لفحص تجريبي للوقائع القابلة للملاحظة.
ويطرح فيليب برو سؤالاً أخر حول مدى سهولة الوصول إلى تعريف للموضوع السياسي لا يكون تعسفيًا بشكل مفرط. إن صعوبة الجواب على هذا السؤال تعود، في نظر المؤلف، للميوعة الدلالية غير العادية لكلمة “سياسة”. إذ تدخل كلمة “سياسي” كصفة في سلسلة من التعارضات الموضحة: قرار سياسي/ قرار تقني، أو أيضًا: مؤسسة سياسية/ مؤسسة إدارية. وعلى الصعيد الدولي خاصة سنلاحظ التناقض بين الحل السياسي والحل العسكري. وكموصوف تحمل الكلمة بالمؤنث سواء في اللغة الشائعية عدة دلالات فهي:
*السياسة كحيز رمزي للتنافس بين المرشحين لتمثيل الشعب
*السياسة كنشاط متخصص
*السياسة كخط سلوك، أي تسلسل مواقف متخذة، وسلسلة متماسكة من أعمال وتصرفات الحكومة.
*سياسة (عامة) كاشتقاق، من المعنى السابق، وتعني هذا النشاط المتعمّد الـمُطبّق على موضوع خاص (السياسة الصحية.. سياسة السكن.. إلخ)
وبالمذكر يُستعمل الموضوف على نطق أضيق بحيث يبقى بشكلٍ خاصًا وقفًا على الأدب العلمي. فالسياسي –اعتمادًا على تعريف ماكس فيبر- يحيل إلى هذا الميدان الاجتماعي الذي تهيمن عليه صراعات المصالح التي تنظمها سلطة محتكرة، هي نفسها للقهر الشرعي.
ويخلص المؤلف إلى أن هذا العلم يمكن أن يُقسّم إلى أربعة فروع: النظرية السياسية التي تتضمن تاريخ المذاهب وحركات الأفكار؛ والعلاقات الدولية؛ والعلم الإداري؛ وعلم الاجتماع السياسي.
وتتضمن خطة الكتاب عدة مستويات، فالفصول الثلاثة الأولى كُرِّست للمقولات المؤسسة التي بدونها لا يكون لعلم الاجتماع السياسي موضوع: السلطة (الفصل الأول)، الدولة (الفصل الثاني)، المنظومات والنظم السياسية (الثالث). وهي تتتالى وفقًا لمنطق بسيط تبدو فيه الظاهرة السلطوية في كل مرحلة في تعقد اجتماعي متزايد. أما الفصل الرابع وحتى التاسع فبني وفق منطق حصر معاكس. ونعني بذلك أن هناك تركيزًا تدريجيًا على سياقات وفاعلين ذوي صفة نوعية خاصة سياسيًا: التكيف الاجتماعي (الفصل الرابع)، والعمل الجماعي (الخامس)، ثم مع المشاركة السياسية (السادس)، وأخيرًا الأحزاب (السابع)، والممثلون والحكام (الثامن)، والمهنة السياسية (التاسع). وعلى مستوى مختلف كليًا يوجد الفصل الأخير: “وصف الواقع أم بناؤه؟”. وتبريره يُستمد من أن أصالة الخطاب العلمي بالنسبة إلى الخطب الأخرى الممكنة عن “السياسي” تكمن في التساؤل بشكل منظم عن الشروط المنهحية لصحته.“
هذا كتابٌ لا غنى عنه لكل مهتمٍ بالظاهرة السياسية عامةً، ولكل باحث في العلوم السياسية خاصة.