الثقافة السائلة
دعت الثقافة الصلبة إلى فصل الدين عن الدولة، ووضعت الدولة / الأمة في مركز الوجود، وأكدت مركزية الإنسان في صنع هذا الوجود، وآمنت بأن الحضارة هي نتاج المادة والروح، والفعل والتفكير والإنتاج، وهي دين بديل يؤمن بتضحية الإنسان “في سبيل تقدم العلم وبسط سلطان العقل على عناصر الطبيعة الجامحة”.
هذا الإيمان الراسخ بمشروع التنوير الثقافي مرَّ بتحولات مهمة خلال العقود الماضية التي شهدت ظهور العولمة، والتمركز حول السوق والنزعة الاستهلاكية، وانتشار النزعة الفردية، وانسحاب الدولة من أدوارها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية؛ مما مهّد الطريق إلى انتقال الثقافة من مرحلة الصلابة إلى مرحلة السيولة، كما انتقلت إلى عالم السلع الاستهلاكية، فانسحبت الدولة من دعمها للثقافة والإرشاد القومي، وبدلاً من الدعم صارت عائقًا أمام الثقافة الحقيقية، حيث اقتصر اهتمامها على توظيف الثقافة والإعلام في تزييف الوعي وتبرير احتكار وسائل القهر والعنف، وشيطنة الحركات الاحتجاجية، التقدمية والمحافظة على حدٍّ سواء.
تتميز كتابات باومان الأخيرة بالتكثيف، فلا يغرنك صغر حجمها فكل فقرة تحتمل فكرة أو أكثر، ينتقل بينها باومان بسلاسة اعتمادًا على تشابك موضوعاته وتكرارها، فضلاً عن تأسيساته النظرية المسبقة في أعماله الأساسية.
هذا هو الكتاب الثامن والأخير من سلسلة السيولة التي كتبها الفيلسوف البريطاني بولندي الأصل زيجمونت باومان وتولت الشبكة العربية للأبحاث والنشر في بيروت ترجمتها ونشرها خلال الأعوام الثلاثة الماضية بترجمة ممتازة للدكتور حجاج أبوجبر، وصدرت على أجزاء بدأت بالحداثة السائلة ثم الحياة السائلة مرورًا بالحب السائل والأزمنة السائلة والخوف والسائل والمراقبة السائلة والشر السائل وأخيرًا الثقافة السائلة.
يمكن القول أن المحور الرئيس لهذا العمل –الثقافة السائلة- هو محاولة سبر ماهية الثقافة ودور المثقف فيما بين عصر الحداثة أو ما يسميه باومان “الحداثة الصلبة، وعصر ما بعد الحداثة الذي يسميع باومان “الحداثة السائلة”.
وعلى هذا المحور الرئيس تتوزع عدة قضايا يخصص باومان لكل منها فصلاً. ففي الفصل الأول المعنون بـ :”عن الجولات التاريخية لمفهوم الثقافة”يعالج باومان قضية معنى الثقافة والنخبة الثقافية والتطورات التي طرأت عليهما. دخلت “الثقافة” قاموس المفردات الحديثة باعتبارها إعلانًا للنيات، وعنوانًا لرسالة لابد من القيام بها. وكانت “الثقافة” وحدها كلمة براقة ودعوة للفعل. لقد افترض هذا المفهوم تفرقة بين المعلمين المعدودين الذين يدعون إلى تثقيف الأرواح والكثرة موضع التثقيف؛ بين المعلمين والمتعلمين؛ بين المنتجين والمنتجات، بين الذوات الفاعلة والموضوعات المستهدفة من الفعل – علاوة على اللقاء الجامع بينهما. إن مشروع التنوير استخدم الثقافة (باعتبارها نشاطًا يشبه فلاحة الأرض) أداة أساسية في بناء أمة ودولة وأمة دولة.
ولبيان التحولات التي طرأت على هذا المفهوم والدور الذي أنيط بالنخبة الثقافية، استعان باومان بعدة دراسات ميدانية أجراها علماء اجتماع بريطانيون وخلصوا فيها إلى أنه ثمة تحول في السياسة الجماعية النخبوية من أصحاب الثقافة الرفيعة الذين يحتقرون في غرور كل الثقافة الوضعية أو السوقية أو الشعبية، إلى أصحاب الثقافة الرفيعة الذين يستهلكون في شره نطاقًا واسعًا من الأشكال الفنية الشعبية والراقية. “لا تشغل بالك، ولا تتعب نفسك بالاختيار، واستهلك المزيد”، هذا كل ما يمكن أن تقوله النخبة الثقافية للجمع الغفير المستهلك لشيء واحد في قاع السلم الثقافي. ولا يغفل باومان عن استعراض أهم الأدبيات التي تعرضت لموضوع بحثه، ومن أهمها كتاب السوسيولوجي الفرنسي بيير بورديو: “التميز”. كان بورديو هو أول من أشار إلى أن كل عرض فني يخاطب طبقة اجتماعية معينة، أي طبقة بعينها، وكانت تلك الطبقة تقبله وحدها أو بالأساس. ويرى بورديو أن الأثر الثلاثي لتلك العروض الفنية (التعريف الطبقي، الفصل الطبقي، و “إظهار الانتماء الطبقي) كان العلة الجوهرية لوجودها، وأهم وظيفة اجتماعية لها. بل وربما هدفها الخفي.
ويقول عالم الاجتماع الألماني جورج زيمل: “إن الموضة لا تبقى أبدًا على حالها، إنها في صيرورة دائمة”، ويعلق باومان على ذلك بالقول إن الموضة تختلف بشدة عن العمليات الفيزيائية، وتتسق تمامًا مع مفهوم الحركة الدائمة؛ ولذا فمن الوارد أن تظهر في حالة من التغير الدائم، ولكن من غير الوارد أن تُقطع سلسلة التغير الذي يستمد حركته من داخله يُطلق لها العنان.
في الفصل الثاني المعنون بـ: “عن الموضة والهوية السائلة ويوتوبيا العصر” يعالج باومان قضية الموضة والعلاقة بينها وبين الثقافة في عصر الحداثة السائلة. الموضة هي إحدة عجلات الطيران الأساسية التي يطير بها “التقدم”، بمعنى التغير الذي يقلل من شأن، ويُنزل من قدر، ويحطُّ من قيمة كل شيء يتركه وراءه، ويحل محله شيئًا جديدًا. ولكن على العكس بشدة من الاستخدامات المبكرة لمصطلح “التقدم”، فإنه لا يرتبط، كما يظهر في مواقع الانترنت التجارية، بأمل الهروب من خطر عظيم أكثر من ارتباطه بتهديد يُرجى الهرب منه. إن الحلم بنزع قدرة اللايقين على إشعارنا بالعجز، وتحويل السعادة إلى حالة دائمة بتغيير متواصل دائم للأنا.. بتغيير أثوابها، وهذا هو التجسد الحقيقي ليوتوبيا اليوم. وهي يوتوبيا تناسب في جوهرها ما يسميه باومان “مجتمع أهل الصيد”، الذي حل محل “مجتمع أهل البستنة” الذين كانوا أبطال عصر الحداثة الصلبة. ويتسائل باومان هل هذه هي نهاية اليوتوبيا؟ ويجيب: نعم هي نهاية اليوتوبيا إذا قصدنا الفكر اليوتوبي الحداثي المبكر. لكن من منطلق الوضع الحالي فإننا نعيش بالفعل عصر اليوتوبيا الاستهلاكية التي تعد بجائزة بعيدة المنال وعدت بها اليوتوبيات الأخرى، إنها تعد بحل نهائي وجذري للمشكلات البشرية في الماضي والحاضر، وبعلاج جذري ونهائي لأحزان الوضع الإنساني وأوجاعه؛ إنها يوتوبيا عجيبة؛ إذ نقلت الحلول والعلاجات من “هنالك وبعد حين” إلى “هنا والآن”. فأهل الصيد لا يعيشون من أجل تحقيق البوتوبيا، بل تُعرض عليهم فرصة العيش داخل اليوتوبيا. لقد كانت اليوتوبيا من منظور أهل البستنة هي نهاية الطريق، وأما أهل الصيد فوجدوا أنها الطريق نفسه.
العلاقة بين الثقافة والعولمة والشتات العولمي والسياسات الثقافية للدول كان هو الموضوع الذي عالجه باومان في الفصول من الثالث إلى السادس والتي يمكن عدُّها الفصول الرئيسة في الكتاب. ينطلق باومان في معالجته لتلك القضية من الإشارة إلى ثلاث موجات للهجرة العالمية في العصر الحديث. الموجة الأولى هجرة ما يقارب 60 مليون نسمة من أوروبا، وهي التي كانت المنطقة التحديثية الوحيدة في الكوكب آنذاك، ويعني هذا أنها كانت المنطقة الوحيدة ذات الانفجار السكاني. وكانت هذه الهجرة تستهدف “الأراضي الفارغة”، أي الأراضي التي كان يمكن لأوروبا القوية ذات الكثافة السكانية العالية أن تستعمرها وتتجاهل سكانها الأصليين.
أما الموجة الثانية فحولت اتجاه الهجرة 180 درجة. فمع سقوط الإمبراطرويات الاستعمارية، نجد أن بعض السكان الأصليين الذين كانوا على قدر متفاوت من التعليم قد اتبعوا المستعمِرين العائدين إلى أوطانهم، واستقروا في مدن يجري تكييفهم فيها مع رؤية العالم الوحيدة والنموذج الإستراتيجي الوحيد المتاح آنذاك، وهو نموذج الإدماج الذي استُحدث في المرحلة المبكرة من بناء الأمة، كطريقة للتعامل مع الأقليات.
وأما الموجة الثالثة من الهجرة الحديثة فهي الآن في أوج تدفقها وقوتها المتزايدة رغم كل المحاولات الدؤوبة لصدها، وهي تمثل بداية عصر الشتات، إنها أرخبيل المستوطنات العرقية والدينية واللغوية التي لا تعتد بالمسارات التي اختطتها الحقبة الكولونيالية، بل سارت بمنطق إعادة التوزيع العولمي لمصادر العيش وفرص البقاء.
ويرى باومان أن المرحلة الراهنة من الهجرة تثير علامة استفهام حول الرابطة الأولية المتينة بين الهوية والقومية، بين الفرد ومكانه في موطن السكن، بين الجيرة المكانية والهوية الثقافية، أي بين القرب المادي والقرب الثقافي. ويتسم الانتقال السكاني العالمي اليوم بأنه نطاق شاسع ومتزايد باستمرار. وتبذل الحكومات قصارى جهدها لنيل رضا الناخبين عن طريق الحد من قدرة المهاجرين على الحصول على حقوقهم. وتضع الحكومات خطًا فاصلاً بين المهاجرين الفقراء غير المرغوب فيهم وهجرة رأس المال والعملة والاستثمار ورجال الأعمال المرحب بهم. ولا شك أن قوى السوق التي تنعم بحرية الحركة تسهم إسهامًا كبيرًا في الحراك المتزايد للمهاجرين الاقتصاديين سواء كانوا فقراء أم أغنياء. والمحصلة النهائية لتلك الضغوط هي ما يسميه باومان النمو العالمي للشتات العرقي.
فما هو موقع الثقافة في هذه العلاقة المعقدة بين المهاجرين ومواطني البلدان الـمُهاجر إليها؟
يركز باومان هنا على حالة بريطانيا، ويتسند إلى دراسة لجيوف دِنش خلص فيها إلى أن كثير من الناس في بريطانيا يعتبرون الأقليات العرقية جماعات دخيلة تختلف مصائرها وولاءاتها اختلافًا بديهيًا عن مصائر الشعب البريطاني وولاءاته. كما أن مكانتهم التابعة والدونية في بريطانيا هي أمر مفروغ منه.
ينتقل باومان بعد ذلك إلى تقديم نقد مركز لتوجهات اليسار الثقافي في قضية التعددية الثقافية. واعتمادًا على الفيلسوف الأمريكي ريتشارد رورتي يذهب باومان إلى أن الهدف الذي يحدو بالحكومات إلى الاستثمار في التفرقة بين المواطنين والمهاجرين من الفقراء هو إلهاء الشعوب وإشغالها بالعداوات العرقية والدينية، والنقاشات حول الأعراف الجنسية. فعندما يتقاتل الفقراء مع الفقراء، سيجد الأغنياء أسبابًا منطقية للابتهاج. ويلخص باومان أوجه النقد الموجهة لليسار الثقافي في أنه مع كل مزاياه في مقاومة العداوة السادية تجاه انتهاك القوالب الثقافية في المجتمع الأمريكي، فإنه مذنب، لأنه حذف من قائمة الاهتمامات العامة الاهتمام بالفقر المادي، وهو أصل الظلم. وأسهم بالتالي في تأجيج صراع الفقراء ضد الفقراء لأسباب ثقافية وهوياتية.
التعددية الثقافية هي الإجابة التي تقدمها في أغلب الأحيان اليوم الطبقات المتعلمة والمؤثرة والمهمة سياسيًا التي تؤدي نفس الدور الذي كان يؤديه المثقفون قديمًا عندما تسأل عن القيم التي ينبغي غرسها والاتجاه الذي ينبغي اتباعه، فهل يمكن بناء أمة بناء على التعددية الثقافية؟
غالبًا ما ستكون الإجابة لا لأنه ثمة عيب خلقي في مبدأ التعددية الثقافية الذي يشار إليه اليوم باعتباره حقًا من حقوق الإنسان وهو أنه يضع أساسًا للتسامح المتبادل، لكنه لا يتجاوز ذلك بتاتًا لوضع أسس التضامن المتبادل.