الإسلام والحداثة من خلال كتابات المفكر فضل الرحمن
فضل الرحمن مفكر مسلم قدَّم أفضل ما في التراث الروحي والأخلاقي والفكر لكل من العالمين الإسلامي والغربي، وبسبب سعي فضل الرحمن لنقاش طروحات الحداثة وحل معضلاتها، أصبح بمثابة مستشار في عدد من البلدان الإسلامية الساعية إلى تجاوز تحديات الحداثة، وقدم أفكاه بصراحة وصدق خشي كثيرون من التعبير عنها.
وهذا الكتاب الذي يضعه دونالد بيري بين أيدينا يغوص بأسلوب واضح وفقهي، في فكر فضل الرحمن، ويقدم دراسة شاملة عن هذا الفكر الذي يطرح “مقاربة للتعاطي الإسلامي مع الحداثة” تختلف جذريًا عن تلك التي عهدناها في الخطاب الإسلامي الراهن.
وقد جاء الكتاب في 4 فصول متمحورة حول مسألتين هما: معضلة النزعة الدينية التقليدية في سياق الحداثة، وعرض حياة وفكر واحد من أهم الباحثين الإسلاميين في القرن العشرين. وسوف تعكس مقاربة المؤلف للدراسة الإسلامية مقاربة “فينومينولوجية” للموضوع تحاول وصف الظاهرة كما تبدو من الداخل، واستخلاص دروس يمكن استخدامها لمعالجة المسائل الأساسية التي لا يزال العالم الإسلامي يرزح تحت وطأتها.
معضلة النزعة التقليدية في سياق الحداثة
يُعرِّف دونالد بيري في الفصل الأول بالمشاكل المرتبطة بالحداثة، ويسلط الضوء عليها بوصفها مسألة حوارية مشتركة بين التقاليد الدينية كافة مستعملاً معضلات الحداثة الخمس التي تحدث عنها بيتر برغر أنموذجًا لاكتشاف التحديات المعاصرة التي تواجهها النزعة الدينية التقليدية في العالم المعاصر.
وهذه المعضلات التي فُرض على كل تقليد ديني في العصر الحديث أن يتعامل معها هي التجرد، أي تجرد المجتمعات الناجم عن استبدال المؤسسات التقليدية بمؤسسات غير تقليدية. وغالبًا ما يولد هذا الشعور المؤسسي مشاعر نفور لدى الأشخاص. وتجرد الحداثة متجذر في الآليات المؤسسية التي تقوم عليها الحداثة، أي السوق الرأسمالية، والدولة البيروقراطية. وغالبًا ما نشأت التقليدية الدينية في سياق مجتمع محلي معين وسط مجتمع متجانس نسبيًا؛ بيد أن التجرد الذي ولده التمدين والتعددية أنتجا مجتمعات غير متجانسة، ولقد ولدت هذه المعضلة تغييرات هائلة في أنماط حياة ملايين الأشخاص وذهنياتهم حول العالم.
و المعضلة الثانية فهي المستقبلية، ويُعنى بها التحول الثوري الذي أنجزته الحداثة في مفهوم الزمن واختباره، فعلى مستوى الحياة اليومية تصبح الساعة، سواء كانت على الجدار أم في اليد، مسيطرة. وعلى مستوى السيرة، يُنظر إلى حياة الشخص على أنها “مسيرة مهنية”. وعلى مستوى مجتمع بأكمله، تخطط الحكومات الوطنية أو المؤسسات الكبرى الأخرى مشاريع تضعها في إطار الخطط الخمسية أو السباعية. وتعني المستقبلية سعيًا متواصلاً وقلقًا وعجزًا متزايد عن الاسترخاء والشعور بالراحة.
أما معضلة الحداثة الثالثة فهي التشخص، ويُقصد به الفصل التجريدي للفرد عن الكيانات الجماعية أو المجتمع ككل، فلم يسبق في التاريخ أن كان الفرد في المجتمع في وضع بمثل هذه الهشاشة.
والمعضلة الرابعة هي التحرير حيث أتاحت الحداثة للفرد التحرر من قيود القدر واكتساب الاختيار.
أما المعضلة الخامسة والأخيرة فهي العلمنة، أي تحرر الإنسان من الوصاية الدينية والميتافيزيقية، وتحويل اهتمامه بعيدًا عن العوالم الأخرى ونحو هذا العالم بالتحديد.
وقد لحظ فضل الرحمن الوقع الهائل للتأثير العلماني في البنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية فيما كانت باكستان تحاول إرساء حكومتها. وإزاء هذه التحديات أصر فضل الرحمن على أن إرساء مؤسسات اجتماعية وسياسية واقتصادية إسلامية يقتضي “إعادة بناء تاريخية منهجية” للفقه والقانون والأخلاق والفلسفة والعلوم الاجتماعية الإسلامية. وتشمل إعادة الإعمار التي دعا إليها فضل الرحمن تطوير فقه قرآني سياقي يستند إلى تحقيق تاريخي ومنهجي في التقليد. ويرى دونالد بيري أن هذه المقاربة ثورية جدا وتختلف جذريًا عن المقارنات المعتمدة بشكل عام من ناحية أنها تخضع الفقه والسنة، بل والقرآن أيضًا لدارسة محض تاريخية. وقد رأى فضل الرحمن أن المسلمين قد أصبحوا إلى حد كبير أسرى منجزاتهم التاريخية سواء كانت قوانين أم مؤسسات، ومن أحل وضع الجنس البشري على الطريق الصحيح وتوفير توجيه إيجابي في التشوش الحالي، علينا أن نتجاوز الجزء الأكبر من الإسلام التاريخي ونعيد اكتشاف الإسلام الحقيقي الحاضر، دائمًا وبصورة ملموسة في القرآن ومبادئه الأخلاقية.
من هو فضل الرحمن، وما هي أهم أفكاره؟
يعرف دونالد بيري بفضل الرحمن وأهم أفكاره، ولد محمد فضل الرحمن في 21 سبتمبر 1919 في الهند قبل التقسيم (باكستان حاليًا) لعائلة شديدة التدين، وقد تمكن بإشراف والده من حفظ القرآن في سن العاشرة. كان والده خريج معهد ديوبوند التقليدي. وقد بدأت مسيرة فضل الرحمن التعليمية في جامعة دورهام، حيث حاضر في الدراسات الفارسية والفلسفة الإسلامية، ثم جامعة ماكجيل في كندا. وفي أغسطس 1962 أصبح فضل الرحمن مدير المعهد المركزي للأبحاث الإسلامية في باكستان، ما أتاح له مهمة إطلاق إعادة اكتشاف باكستانية للقرآن وإعادة بناء مجتمعية تطرقت كلتاهما إلى الحداثة وعكستا روح العصر في القرآن. ولم تمر تجربة فضل الرحمن في المؤسسات الحكومية الباكستانية من دون مشقات، فقد واجه هو وسواه عنتًا شديدًا بسبب بعض مواقفهم من المسائل الاجتماعية والسياسية. منها موقفه من الحديث النبوي وقانون الأسرة المسلمة الذي أقر في في يناير 1961. وموقفه في قضية تنظيم الأسرة الذي دعمه، وكذلك موقفه من قضية الفوائد والعمليات المصرفية. وقد بلغ استياء الرأي العام الباكستاني حدودًا خطيرة، ونظمت مسيرات في شرق باكستان وإقليم الحدود الشمالية الغربية وطولب بدمه.
وقد دعا فضل الرحمن إلى إعادة إكتشاف القرآن وإعادة بناء الإسلام على ضوء التفسير القرآني.
استجابة لإعادة البناء بمنظور السيد أبي الأعلى المودودي
يقدم هذا الفصل ردًا أصوليا على الحداثة من خلال خصم عنيف اللهجة أحيانًا، عاصر فضل الرحمن في باكستان، وهو السيد أبو الأعلى المودودي، فيسلط الضوء على الاختلافات بين المودودي وفضل الرحمن اللذين يمثلان النقاش الدائر حاليًا في البلدان الإسلامية في محاولتها التعامل مع الحداثة. وخلص دونالد بيري إلى أنه فيما سعى المودودي إلى ثورة إسلامية، دعا فضل الرحمن إلى عملية إعادة بناء. كما شدد الأخير على أن الإسلام يجب ألا يرضى بالرجوع إلى أيام الفقهاء المسلمين، بل على المسلمين إعادة بناء الإسلام من خلال نظرة جديدة إلى القرآن. وبحسب فضل الرحمن يجب ألا يتأخر القرآن بسبب الهياكل التقليدية، بل يجب أن يُدرس بوصفه المصدر الديناميكي النابض بالحياة. ويرى فضل الرحمن أن الحركة الأصولية الجديدة تتمتع بالقوة، على الرغم من تضليلها لكن نقطة ضعفهم الأساسية تتمثل في أنهم نادرًا ما كانوا متجذرين في التقاليد الفكرية الإسلامية بخلاف أسلافهم. ولا يمكن للإسلام أن يحقق عملية إعادة البناء من خلال “شعارات جذابة”، ولا أن يبرز فضل القرآن من دون جهد فكري جدي.
أهمية فضل الرحمن في معضلة الحداثة
في هذا الفصل الختامي يعرض دونالد بيري مشكلة الحداثة بوصفها مشكلة كونية، ويكشف كيف أسهم فكر فضل الرحمن في المسائل المتعلقة بها. ويبدأ الفصل بإظهار عدد من التقاليد الدينية التي تجاوبت مع معضلة الحداثة. ويلقي القسم الثاني منه الضوء على مساهمة فضل الرحمن في هذا السياق. ويستخدم القسم الأخير رؤى فضل الرحمن انطلاقًا من تناظرها مع التحديات التي يواجهها العمل التبشيري المسيحي في سياق الحداثة.