تعدُّ علاقة القارئ العربي بكتابات مايكل كوك، أستاذ دراسات الإسلام المبكر في جامعة برونستون، علاقة ملتبسة وشائكة بعض الشي.
فالقارئ المطّلع على كتابات كوك الأولى حول الإسلام، سرعان ما تنتابه حالة من الدهشة والإعجاب ربما لمدى عمق وغنى معرفة كوك بروح الإسلام في كتبه الأخيرة، مقارنة بالأولى، وأعني هنا بالتحديد كتابيه «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» و«أديان قديمة وسياسة حديثة»، إذ بدا كوك في دراساته وكتبه الأولى، التي أعدّ بعضها برفقة زميلته وزوجته المؤرخة الراحلة باتريشيا كرون، كما في حال كتاب «الهاجريون»، أكثر تأثرا بالمنهج المشكك بسردية الإسلام المبكر، انطلاقا من أن هذه السردية كُتِبت في وقت متأخر.
وقد أدى المنهج، الذي عرفه الكثير من القراء العرب عن كوك، إلى تشكيل انطباع عن بقية نتاجه عن الإسلام، خاصة في الأعوام العشرين الأخيرة‘ ورغم صدور عدد من الكتب التي ذكرناها سلفا، فقد بقي اهتمام غالبية المهتمين بما كتبه هذا العالم منصبا على كتاباته الأولى ولأسباب مختلفة؛ وهذا ما يمكن ملاحظته مثلا في كتاب آمنة الجبلاوي «الاستشراق الأنكلو سكسوني»، الذي صدر عام 2006، أي بعد ست سنوات من صدور سفره العظيم «الأمر بالمعروف» بالإنكليزية. كما بقي البعض يعكف على ترجمه أعماله الأولى من باب فقه النكاية، ظنا منه أنه بذلك يُحرج المسلمين/الإسلاميين عبر نشر رؤى تشكّك بالسردية المحمدية المبكرة، كما في حالة نبيل فياض (مترجم كتاب «الهاجريون») الذي قام مؤخرا بترجمة عدد من دراسات كوك وكرون تحت عنوان «محمد نبي الإسلام».
وبالعودة إلى أعمال كوك الأخيرة، كان رضوان السيد، وبحكم إلمامه الفريد بكل ما يكتب عن الإسلام التاريخي والمعاصر في الجامعات الغربية، قد تنبه إلى أن تحولا أخذ يشهده نتاج كوك حول الإسلام المبكر، ورغم أن السيد لا يشفي شغفنا بمعرفة أسباب هذا التغير في منهج كوك؛ بيد أنه أتاح لنا من خلال ترجمته لكتاب «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» التعرّف على هذه القراءة الجديدة للإسلام.
إذ بدا كوك في هذا الكتاب متأثرا بكلام الإمام الغزالي في «إحياء علوم الدين»، عندما أشار إلى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو أصل الإسلام وجوهر الدين.
وقد استطاع كوك من خلال بحثه في تاريخ هذه المقولة، أن يبين لنا كيف أن هذه العبارة وفّرت مدخلا مناسبا للمسلمين للمشاركة في المجال العام والتصدي للمفاسد؛ كما كشف لنا عن معرفة أمريكية غنية وجديدة بالإسلام ومتقدمة حتى على القراءات الأوروبية؛ وهي نتيجة كان قد توقعها المؤرخ الأمريكي زكاري لوكمان (تلميذ أدوارد سعيد) عام 2003 ، فقد أشار إلى أن الإسلام ورغم الحصار الذي يعيشه بعد أحداث 2001، إلا أنه يحظى باهتمام أقسام كبيرة من الجامعات الأمريكية على مستوى تاريخه وواقعه المعاش. وربما للأسباب السابقة، غامر الناشر والباحث السعودي نواف القديمي بتبنيه لترجمة كتابه الجديد «أديان قديمة وسياسة حديثة»، ترجمة محمد مراس المروزقي؛ الذي حاول فيه كوك دراسة الإسلام في السياسة الحديثة من خلال مقارنة هذا الدور مع الدورين اللذين تؤديهما الهندوسية والمسيحية اللاتينية. وكما كان متوقعا، فقد استطاع كوك أن يقدم رحلة طويلة وغنية بين شعاب الأديان الثلاثة وعلاقتها بالعالم الجديد، على مستوى الهوية والمجتمع ومفاهيم الحرب وتغير دور النخب الدينية وعلاقة هذه الأديان بالأصولية.
الأصولية والإسلام:
يقع الكتاب في 700 صفحة تقريبا، ولذلك فمن الصعب التطرق له بشكل كلي في مقالة واحدة، وهذا ما دفعنا إلى التعريف بقراءة كوك للأصولية الإسلامية، وكيفية قراءته لأفكار أبو أعلى المودودي وسيد قطب في ما تبقى من المقال. وكعادته في التعامل فيلولوجيا مع أي مصطلح، فقد حاول كوك تتبع جذور مصطلح الأصولية،
إذ يرى أن لفظ «أصولية» وُضع سنة 1920 من قبل كورتيس لي لوز، الذي كان يعمل محررا لإحدى الصحف الأمريكية، فخلال تعليقه على مؤتمر ديني حول «الأصول» يشير لوز إلى أن هذا الحدث جمع خليطا متنوعا عقديا من بروتستانت أمريكا الشمالية: ممن ينتسبون إلى ما قبل القائلين بالنزعة الألفية، وإلى ما بعد القائلين بها.
وقد لاحظ لوز أن كلمة «محافظين» ذات نبرة كثيرة الرجعية، كما أنه رفض تسمية «ما قبل الألفيين» باعتبارها شديدة الضيق، ولذلك فقد اقترح أن يُطلق اسم «الأصوليين» على من ينوي أن يُكافح من أجل الأصول الكبرى، ورغم أنه لم يكن يهدف إلى تطبيق هذا المصطلح على أديان أو جماعات أخرى، لكن الواقع سرعان ما أتاح لهذا المفهوم أن يغدو مستعدا للتطبيق على أي موروث ديني. ومنذ عام 1920 أخذنا نسمع عن الأصولية الإسلامية والهندوسية؛ ومع ذلك يرى كوك أن هذا المصطلح يبقى مصطلحا إشكاليا وغير محدّد بشكل دقيق.
ومن هنا حاول تطوير هذا المصطلح وتحديد ماهيته عبر القول، إن هناك أديانا تبدو غير مرتاحة في علاقتها بالعالم الحديث، ولذلك غالبا ما يعيش إرث هذه الأديان بطريقتين، طريقة مرنة وأخرى غير مرنة. ففي السياق البروتستانتي الأمريكي الشمالي كان من ينطبق عليه وصف المرونة من ذوي النزعة الحداثية، لكن ما يعنينا نحن يوجد في أشكال الدين التي ترفض الخضوع للحداثة. فهي يمكن أن تعرض عدم إرادتها، القبول بالحلول الوسطى بطريقتين، وإن كانتا مختلفتين: الأولى تتمثل في خيار «المنبع»، الذي يعني به خيار العودة إلى الأصول الأولى؛ والثانية تتمثل في خيار «المصب»، الذي يراكم عادة كما كبيرا من الرواسب، وهو في حال الأديان يتمثل في الإرث الذي وصلنا من الأجيال السابقة وأفاضلهم الذين حافظوا على الأديان ولم يلوثوها. ولكن كيف أدرك الإسلاميون الأصولية في الأزمة الحديثة؟
ومن خلال قراءة هادئة، لا تخلو من تأويلات غير معهودة لنصوص المودودي وقطب؛ يعود كوك إلى رواية وجيزة عن حياة المودودي وفكره قدمها تلميذان من تلاميذه وصفاه فيها بالقول «لقد بين المودودي أن ما هو معياري وثابت من التراث الإسلامي يتمثل في مبادئ القرآن والسنة ولا شيء غير ذلك»؛ هذا الوصف يقدم المودودي بوصفه أصوليا صارما. وبالفعل، فالكثير مما يقوله المودودي في عدد من منشوراته قد يطابق هذا التوجه. من ذلك شرحه للتجديد الإسلامي على أنه «تطهير الإسلام من كل العناصر غير الإلهية وتقديمه بجعله يزدهر بتفاوت زيادة أو نقصانا في صورته الأصلية الخالصة». بيد أنه رغم هذا الرأي، يبيّن كوك أن المودودي بقي يولي اهتماما للموروث. فقد وصفه أحد العلماء بكونه «أكثر من غيره من الإسلاميين الآخرين إرادة للاعتراف بالقيمة والأهمية اللتين للموروث الفقهي والتفسيري ما قبل الحديث، لفهم الإسلام وتأويله في العالم الحديث». وقد لا تكون علل المودودي في ذلك تامة المبدئية، إلا أن ذلك لم يكن مجرد عدم تناسق في فكره، فهو يرى أن نزعته التجديدية تحصل في سياق سلسلة طويلة من الجهود التجديدية المنتشرة خلال القرون. وقد سعت بعض الشخصيات، التي من نوع التقي الأموي عمر بن عبد العزيز (حكم بين 717 و720) وفقهاء القرنين الثامن والتاسع، الذين أسسوا مدارس المذاهب الأربعة، والعالم الغزالي وابن تيمية، إلى تجديد الإسلام قبل المودودي بكثير ويظهرون في المشهد. وفي ذكرهم والاستناد إليهم بوصفهم يمثلون سوابق، كان يستعمل طريقة الأصولي الواصل بين حلقات الموروث الإسلامي الأصيل. وقد أحس بكل يقين أن حركة تجديد في زمانه يمكن أن تستفيد من هذه التجارب التي سبقتها.
بيد أن ما لا يمكن لحركة التجديد الحالية أن تفعله، هو التقيد بنموذح المعتقد والفكر لأي منها. والعلة هي أن القطيعة بين زمانها وزماننا كبيرة جدا، إذ أننا نجابه الآن «مشاكل حياة لا تُحصى، لم يكن لهذه التجارب عنها أدنى فكرة». «لذلك فإن مصدر الهداية والاستيحاء الوحيد لحركة أيديولوجية من أجل نهضة الإسلام في هذا العصر، ينبغي أن يكون كتاب الله وسنة نبيه».
وفي إيجاز فإن المودودي كان قادرا على إظهار الاحترام للموروث المدرسي من دون أن يترك له إمكانية اعتراض طريقه. وفي الغاية يبقى المودودي، وفقا لكوك، أصوليا، على الرغم من أنه منفتح وحسن الأدب عندما يتعلق الأمر بموروث العلماء.
إن حالة سيد قطب مماثلة لحالة المودودي، على الرغم من أن تحديده أقل حسما. ففي كتابه «معركة الإسلام والرأسمالية»، نجد أن هجومه على المدرسة التقليدية لم يكن بسبب أن محتواها خطأ، بل بالأحرى لأنه لا فائدة منها. فهو يقول لنا إن الأصول الإسلامية ينبغي أن لا نخلط بينها وبين الشروح والحواشي التي يُضيع علماء الأزهر وقتهم فيها. وهو يساند التخلي عنها استنادا إلى ما جربه شخصيا منها.
مع ذلك يبقى قطب بالنسبة لكوك غير ملتزم بشدة بالأصولية، ففي أحد فقراته يحيل بتقدير إلى مؤسسي مذاهب الفقه الأربعة، ويواصل فيسمي، بالروح نفسها، خمسة من علماء القرنين الثالث والرابع عشر إلا أنه مع ذلك قلما يورد شواهد من مثل هؤلاء العلماء، باعتبارهم مرجعية علمية، أو بوصف آرائهم ذات أهمية. فهم لا يؤدون دورا كبيرا في حججه، سواء بوصفهم مفكرين أحرارا أم بوصفهم مؤولين لنصوص الوحي. وفي الجملة يمكن أن نصف قطب بكونه أصوليا غير رسمي، فكره أكثر مرونة من فكر المودودي، لكنه لا يختلف عنه جوهريا. ولكن ما الذي يجعل الأصولية خيارا جذابا؟
يرى كوك أن ذلك يعود إلى عدد من العوامل أهمها أن القيمة الاجتماعية الأساسية في المجتمع المسلم الأول هي نزعة المساواة، ورغم أن نزعة المساواة الإسلامية لا تشمل النساء ولا العبيد أو الكفار، وهو ما لا يلائم عالم اليوم، إلا أنه وعلى الرغم من هذه القيود يوجد ما هو مغر بخصوص الموروث ذي النزعة القائلة بالمساواة. وهناك سبب آخر، وإن بدا غير ملحوظ، يتعلق بطابع الحرب وصورتها في أيام الإسلام الأولى. فروايات الجهاد الأكثر تفضيلا لدى الجهاديين هي بالطبع تلك المجموعة التي حصلت في حياة النبي. وكما سبق أن رأينا فإن الجهاد في الوضع القبلي الجاف للجزيرة العربية كان في الغالب شديد الاختلاف عن الحملات الكبرى التي قامت بها الدول الإسلامية لاحقا، التي كان لها مداخيل زراعية جوهرية قادرة على توفيرها لجيوشها المحترفة. فالذين شاركوا في حملات محمد الخمس والستين كانوا مسلمين عاديين، ولم يكونوا أكثر من جنود محترفين. وكانوا يعملون في الغالب في فرق صغيرة ويخوضون ما يُسمى بالمعايير الحديثة حربا غير نظامية.
وماذا عن علاقة الأصولية بالحداثة
بحسب كوك، توجد درجة من التقارب بين الأصولية والنزعة الحداثية، فبالنسبة لقطب ليست الصورة العينية للنظام السياسي في القرن السابع عشر هي التي ينبغي استعادتها مع كل ما يصحبها من ضنك الصحراء، بل إن النظام الإسلامي المتعين في ذلك النظام السياسي، يمكن أن يأخذ صورا عديدة بحسب تطور المجتمع وحاجات العصر. كما أن المودودي يميز بين ما لا يتغير من مقومات الشرعية التي تتأسس مباشرة على القرآن والسنة، أما ما عداهما فهو منفتح على التغيير «بحسب حاجات الأزمنة المتغيرة ومقتضياتها»، حتى نتمكن بذلك من ضمان الحركية والتكيف والطبيعة التقدمية وقوة النمو المتطور لنظام الشريعة الإسلامية. ولعل ذلك لا يتجاوز النظرة اليابانية في القرن التاسع عشر القائلة إن «الأزمة الجديدة تقتضي قوانين جديدة تكون بروح الأزمنة الماضية لكنها تستجيب لحاجات الحاضر».
وبإيجاز فإن الأصولية ونزعة الحداثة كلتاهما يمكن أن تكون طريقا لتحرير الذات من شوائب الموروث المتأخر، سواء أكان هذا الموروث هو تصورات المجتمع التراتبية ذات المنزلقات، أو بقايا الشرك، أو النزعة المستسلمة لطغاة الحكام.
رابط المقال :
الدين والذاكرة وعبور أسوار المدينة: في أنثروبولوجيا «الإسلام المرتحل»