المراقبة السائلة
هذا الكتاب هو حوار دار بين اثنين من علماء الاجتماع هما زيجمونت باومان عالم الاجتماع البولندي الشهير، وصاحب سلسلة السيولة، وديفيد ليون أستاذ الاجتماع والقانون بجامعة الملكة في أونتاريو. وقد دار الحوار بينهما عبر البريد الإلكتروني في الفترة ما بين سبتمبر ونوفمبر 2011.
قُسِّم الكتاب حسب الموضوعات التي دار الحوار حولها إلى:
- تمهيد بقلم ديفيد ليون
- الفصل الأول: الطائرات من دون طيار ووسائل التواصل الاجتماعي
- الفصل الثاني: المراقبة السائلة: مرحلة ما بعد البانوبتيكون
- الفصل الثالث: البعد والإبعاد والتحكم الإلكتروني
- الفصل الرابع: اللا(أمن) والمراقبة
- الفصل الخامس: النزعة الاستهلاكية والمواقع الإلكتروني والفرز الاجتماعي
- الفصل السادس: المراقبة من منظور أخلاقي
- الفصل السابع: القدرة والأمل.
وقد ترجم الكتاب الدكتور حجَّاج أبو جبر، وقدمته الدكتورة هبة رءوف عزت، وصدر ضمن سلسلة السيولة التي صدر منها 6 كتب عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر، كان هذا الكتاب السادس منها.
ليس هذا كتاباً في تكنولوجيا المراقبة والكاميرات، بل هو كتاب في علم اجتماع الآلة وأثرها في الوعي بالذات، وفي توظيف التطورات التكنولوجية لخدمة الأجندات السياسية التي تجور على الحريات وتنتهك الحدود الشخصية. إنه كتاب في حياتنا اليومية التي تغزوها المعلومات وتسلبنا كل ما عندنا من بيانات لتقوم بتوظيفها لمصلحة شبكات كبرى -اقتصادية وسياسية- فتزيد من قدرتها على النفاذ إلى أدق خصوصياتنا.
والكتاب حوار يدور بين اثنين من علماء الاجتماع حول أثر انتشار منصات الرقابة بما فيها أدوات الاتصال الاجتماعي التي باتت نافذة يمكنك أن تطل منها على العالم… وفي الوقت ذاته يطل منها العالم عليك ويتابعك، وصولاً لاختراق كاميرا الهاتف المحمول وكاميرا جهاز اللابتوب لمراقبتك وتتبّع خطواتك وتسجيل حواراتك الخاصة. فكيف يؤثّر ذلك فينا وفي تصوراتنا عن الذات وسلوكنا المجتمعي وعلاقتنا بالعالم؟
“المراقبة السائلة” ليست مجرد آلة رصد أو كاميرا في ركن المتجر أو أمام بناية سكنية، إنها التطبيق الذي تستخدمه للبحث عن طريقك فيدل جهات أخرى على مسارك وحركتك، وعين صغيرة مثبتة على جهاز اللابتوب تسجل محادثاتك مع الأصدقاء، وهي أجهزة رصد وتحليل لكل ما يخصك من تفاصيل تدخلها بعفوية عند التسجيل لخدمة أو موقع إلكتروني لتتراكم هذه المعلومات ويتم تبادلها بين جهات السيادة ومؤسسات التسويق لتتحدث عنك بدلاً من أن تتحدث أنت عن نفسك، وهي منظومة متابعة وتعقب وتتبع وفرز وفحص ورصد ممنهج.. واستهداف.
هذا الكتاب منشغل بكثير من الأسئلة الأخلاقية، فجل الجدل حول هذه المسألة يتناول الكفاءة والسرعة التي تتيحها التكنولوجيات الحديثة أو أنظمة التحكم، لكن قلما ينشغل النقاش بالآثار الاجتماعية والأخلاقية الكبرى التي ستترك آثرها في صيغة الاجتماع الإنساني ووعينا كأفراد بالذات، وبالخطأ والصواب… والحقوق والعدل.
إن هذا الكتاب يختبر المقدرة التفسيرية للإطار النظري للحداثة السائلة عند تناول الدور المعاصر للمراقبة، تلك المراقبة التي صارت أكثر مرونة وحركية بعدما كانت تبدو صلبة وثابتة، إنها تتسرب الآن وتنتشر في نواح كثيرة قلما كانت تؤثر فيها، وقلما ننتبه إلى وجودها في تفاصيل حياتنا وعلاقاتنا.
يبدأ الكتاب ببيان التصور القديم عن الرقابة التي تمثلت في برج المراقبة وسط مساحة السجن (بانوبتيكون)، يتمكن منه المراقب من متابعة زنازين السجناء ولا يرونه هم كما لا يرون بعضهم بعضًا، وسيظل هذا المجاز معنا عبر فصول الكتاب، فهو وإن تغير شكله فلم يعد صيغة المراقبة الوحيدة، لكنه يظل “المخيال والنموذج” اللذين يمكن الرجوع إليهما، وان اختلفت صيغ الرقابة والمراقبة وعلاقة المراقِب والمراقَب التي باتت أشد تعقيدًا. إن المراقبة فيما يمكن أن نسميه “السجون الرأسمالية المفتوحة” التي نسكنها كمستهلكين لا تقدّم نفسها كأداة للقمع كالتي وصفها مفكرون مثل بنثام أو فوكو، بل صارت تقترن بالمتعة والترفيه وأوفات الفراغ، أو ترتبط بالحاجة والضرورة حيث تأتي كجزء من صفقة التحديث وأجهزته التي نقبل على شراءها لنظل “على صلة – connected) بهذا العالم الحقيقي… أو المتوهم، إنها أقرب للعواقب التي لا يمكن تجنبها في الحروب، وبعد أن كانت موضع حذر وتوجس –ونظرًا إلى كثرتها وتوغلها وانتشارها في تفاصيلنا- بتنا بسهولة “ننقر بالموافقة” حين تظهر لنا صورة اتفاق استخدام التطبيقات المختلفة دون أن نقرأ حرفًا من الشروط، ثم نتبادل لاحقًا رسائل التحذير منها، وحيل الكشف عن خباياها.
وهنا يبدو جليًا ما حدثنا عنه باومان سابقًا من انفصال السياسة عن السلطة، فالسياسة هي الإدارة التي تتعامل مع احتياجات الناس، لكن السلطة هي القوة التي تفوم بتشكيل أطر حياتهم والتوازنات التي تحكمها، وهذه باتت خارج حدود الدولة من ناحية لكن داخل تفاصيل حياة الناس اليومية من ناحية أخرى، فهي أقرب إلى وحش ضخم متعدد الأذرع وطويلها يصل بها عبر المنافذ المختلفة لأبعد نقطة داخل المساحات المغلقة والتي تبدو لأهلها كأنها حصينة ومنيعة.
ثمة سمة أخرى تمثيل إلى جانب انفصال السياسة عن السلطة السياق الحاكم لانتشار المراقبة السائلة وهي التفكك الاجتماعي. ويرى باومان هذا الأمر في إطار علاقة جدلية، ويقول إن وسائل التواصل الاجتماعي الإلكتروني هي نتاج التفكك الاجتماعي، وليس العكس فحسب، وليس العكس.. بالضرورة. فالسلطة في الحداثة السائلة لابد أن تتمتع بحرية التدفق، والشبكات الكثيفة المحكمة للروابط الاجتماعية – ولاسيما القائمة على الأرض وحدودها- لابد من التخلص منها، ذلك لأن هشاشة الروابط الاجتماعية هي التي تسمح لسلطة العولمة بالعمل والاجتياح الناعم أحيانًا، والخشن أحيانًا أخرى.
لم يفلت المسعى العلماني والإلحادي –إذن- مما كان يظنه وطأة الرقابة الدينية الغيبية إلا ليسقط في بانوبتيكون الرقابة السائلة لسلطة العولمة التي تديرها الكيانات الكبرى، وهو ما يثير قضية “الضمير”، فالإيمان بأن الله هو السميع البصير كان أساس السلوك المستقيم، وما يطلق عليه في كتب التزكية والتريية “المراقبة” كان موضعه النفس الإنسانية والحس الأخلاقي الداخلي وليس نظرة الآخرين، وهو عين ما اعتبرته الحداثة عبئًا نفسيًا يستند إلى الخرافة والسلطة الدينية وأرادت تحرير الإنسان منه، لكن ما انتهينا إليه هو أن العبء الأخلاقي اليوم يدور خول تقدير مسئولياتنا عن عواقب استخدام تلك التقنيات التي تتيح المراقبة على الدوام وتجرح الخصوصية وتهدر الاختيار، والتي تجعل الانضباط والالتزام نابعًا من خشية المحاسبة القانونية لا من قناعة دينية أو التزام أخلاقي أو ديني.
توضح لنا السيولة كمنطلق تحليلي الكثير من التباسات الحياة المعاصرة، وتناقضاتها. ففي عالم “الحداثة السائلة في مرحلة ما بعد البانوبتيكون” نجد أن كثيرًا من المعلومات الشخصية التي تمتصها أنظمة المراقبة إنما يوفرها الناس بأنفسهم ومجانًا، بشكل اعتيادي ومن دون تحفظ. أما من يمسكون أدوات السلطة فيمكنهم في أية لحظة أن يلجؤوا إلى الاحتجاب المطلق، ويوظفوا البيانات والمعلومات لتحقيق منافعهم وأرباحهم.
لن يترك هذا الكتاب القارئ مستريحًا بعد الانتهاء منه، بل ربما يجتهد البعض في تجاهل ما سيقرؤه كي يمكنه الاستمرار في استخدام كل الأجهزة التي تراقبه من دون أن يشغل باله بما هو مكتوب فيه، وربما يمارس درجة من الإنكار لأنه لو أخذ كل كلمة فيه على محمل الجد قد يضطره ذلك إلى تقليص استخدام التكنولوجيا أو إنفاق بعض الوقت في تعلم سبل حماية نفسه من أخطبوط المراقبة السائلة، لكن من المؤكد أنه سيفتح أعين الكثيرين على الآثار الاجتماعية والأخلاقية للتكنولوجيا، والحاجة الماسة إلى أن نفكر في مستقبلنا بدلاً من الركون إلى سير الحياة المعتاد أو الهرولة وراء كل جديد ونقر “موافق” لتنزيل كل تطبيق مستحدث دون أن نقرأ أو نفهم أو نتدبر، وسيعيننا على فهم التاريخ البشري الجاري الذي لن يمكن مسح آثاره “بنقرة زر” مثلما نمسح تاريخ استخدام الإنترنت من على جهاز الكمبيوتر، ولا الهروب من عبء المسئولية الأخلاقية والدينية عما يجري حولنا بحجب الحقيقة أو منعها من الظهور على شاشة ضمائرنا باستخدام “هايد” أو “بلوك” مثلما نفعل مع من أو ما يضايقنا، أو يضجرنا.