الدولة الخرائطية: الخرائط والإقليم وجذور السيادة
لماذا تمتلئ خريطة العالم اليوم بدول إقليمية تفصل بينها حدود خطية؟ إن الإجابة عن هذا السؤال من شأنه أن يساعد على فهم القواعد التي بُنيت عليها السياسة الدولية؛ وهذا السؤال هو أكثر صعوبة مما نظن وأكثر كشفًا للحقيقة مما نعتقد؛ لذا سيُلقي هذا الكتاب الضوء على الدور المهم الذي أدّاه رسم الخرائط في تطور الدول الحديثة؛ حيث يكشف جوردن برانش، من خلال الأدلة المستقاة من تاريخ الكارتوغرافيا ومن معاهدات السلام ومن الممارسات السياسية، كيف تمكنت التقنيات الحديثة لرسم الخرائط من تغيير الأطر السياسية الرئيسة منذ بداية تاريخ أوروبا الحديثة، وهو ما أفضى إلى رسم الحدود الخطية بين الدول وتفعيل الحكم الحصري الإقليمي داخلها.
يعيد الكتاب الذي بين أيدينا رسم الأطر التي تحكم فهمنا للنظام الدولي، والطريقة التي نحدد بها جذور النظام الحالي للدولة ذات السيادة والمسار المستقبلي له، وهو يتوزع على فصل تمهيدي وسبعة فصول تعتمد جميعها على منهجَي التحليل السردي وتتبُّع العمليات اللذين يمكِّنان من تحديد الروابط بين عوامل التغيير التقنية في الممارسات الكارتوغرافية وبين البنى الفكرية التي تعمل من خلالها هذه التغييرات والمخرجات السياسية المادية الناتجة من ذلك.
التساؤل عن كيف ظهرت خرائطنا بالهيئة التي هي عليها اليوم هو في حقيقة الأمر أكثر صعوبة مما نظن، وأكثر كشفًا للحقيقة مما نعتقد. فالدور الذي أدته الخريطة في ظهور الدولة ذات السيادة لم يكن مجرد دور تصويري لحالة العالم السياسية كما هي عليه، فالخرائط متورطة فعلاً في إخراج تلك النتيجة بالقدر نفسه. لقد شكلت الخرائط، ولا تزال، كيفية إدراك الناس للعالم وموقعهم فيه. وشهدت بواكير أوروبا الحديثة ثورة في كل من تقنيات إنتاج الخريطة، وفي أفكار وممارسات الحكم السياسي. ولم تكن مصادفة أن كيفية إدراك الحكام للأراضي الخاضعة لهم قد تعدّلت مع زيادة اعتمادهم، كغيرهم على الخرائط التي صورت العالم على نحو جديد. وبوسعنا أن نعثر على أصول النظام السياسي لعالمنا القائم على الدول ذات السيادة على إقليمها المكاني في ذلك التقاطع الذي تلتقي عنده الرسومات الكارتوغرافية، والأفكار والمؤسسات السياسية، وممارسات كل من الحكام والمحكومين. وهذا التقاطع هو بعينه موضوع هذا الكتاب.
في ثمانينات القرن السابع عشر، عُرضت على لويس الرابع عشر ملك فرنسا خريطة تضم حدود مملكته، وهي نتاج عقود متصلة من عمل استند إلى أكثر الأساليب العلمية تقدمًا في رسم الخرائط لفترة بواكير العصر الحديث. أُعدت الخريطة بتمويل كبير من موارد الدولة، واستندت إلى أساليب مسح زاوجت بين شبكة المثلثات والقياس الدقيق لدوائر العرض، ومن ثمَّ قدمت الخريطة معالم خط الساحل الصحيح لفرنسا، مقارنة بحدود أقل دقة لهذا الساحل على خرائط سابقة. وقد كشفت هذه الخريطة المحدَّثة أن ما سبقها من خرائط قد بالغ بشكل ملحوظ في المساحة الإجمالية لفرنسا – بفارق مقداره 45 ألف ميل مربع – وقد رُوي حينها أن لويس الرابع عشر أبدى فزعه لهذه “الخسارة” في مساحة الأراضي الفرنسية، وهي مساحة تربو على مساحة أي من فتوحاته العسكرية الناجحة آنذاك.
لقد كشفت الخريطة بالطبع أن لويس لم يكن يحكم أرضًا بتلك المساحة الشاسعة التي تصورها. لم تغير الخريطة الجديدة شيئًا في الواقع، سوى ما غيرته في فكرة الحاكم عن حدود مملكته؛ بيد أن “فكرة” ماهو خاضع للحكم وثيقة الارتباط بكيفية سعي اللاعبين السياسيين لتحقيق أهدافهم. ومنذ بواكير العصر الحديث، لا تزال الخرائط تشكل الكيفية التي يدرك من خلالها الحكام والمحكومون الشئون السياسية. وتحدد هذه الخرائط كل شيء، بداية من التقسيمات الإدارية الحدودية بين الدول، وصولاً إلى التشريعات القضائية والحقوق الداخلية. وعلى المستوى العالمي، تنشر صورة العالم على الخريطة أفكارًا مهيمنة عن التنظيم السياسي، تبدو فيه الدولة باعتبارها مجالاً لحقوق مكانية تُجسَّد في شكل حدود خطية توقع على الخريطة. وعلى الرغم من أن هذا قد يبدو أمرًا بدهيًا للمراقبين اليوم، إلا أن ذلك بعيدٌ تمامًا عن الدقة.
كما ذكرنا أنفًا ارتبطت التطورات التقنية لصناعة الخرائط بتطورات الأفكار والممارسات السياسية الحديثة، وبذلك أصبح تمحيص هذين المتغيرين بشكل متوازٍ أمرًا لا مفر منه. يعتمد الكتاب على منهجي التحليل السردي وتتبع العمليات اللذين يمكِّنان من تحديد الروابط بين عوامل التغيير التقنية، وبين البنى الفكرية التي تعمل هذه التغيرات من خلالها، والمخرجات السياسية المادية الناتجة عن ذلك.
بعد التمهيد في الفصل الأول يعرض الفصل الثاني “السلطة والسيادة والتغيّر الدولي” مقاربة جديدة لوصف الأنظمة الدولية والتغير النظامي، ثم يستخدم هذا الإطار لتحديد طبيعة وتوقيت بدايات التشكل الحديث للبنى السياسية الأوروبية. فالأفكار الأساسية عن السلطة السياسية –أي لمن الحق في حكم أي نوع من الأقاليم- تصوغ الهوية والتنظيم للفاعلين السياسيين بما يشكل مخرجات من قبيل طبيعة النزاع وأسبابه.
ويختبر الفصل الثالث “الثورة الكارتوغرافية” تطور الأدوات الكارتوغرافية في أوروبا منذ القرن الخامس عشر، ويبرز طبيعة هذه التقنية بالغة التأثير والمحمّلة بالأبعاد الاجتماعية. كانت الخرائط نادرة خلال العصور الوسطى الأوروبية، وكانت تُرسم من دون التحديد الهندسي الدقيق الذي تتمتع به الخرائط الحديثة. وأظهرت الصور الكارتوغرافية للعصور الوسطى فهمًا للعالم أبرز التميز الذي تمتعت به أماكن فرادى، وليس التجانس ما بين الامتدادات المكانية. غير أن إعادة اكتشاف النصوص الكلاسيكية الرئيسة، والابتكارات في مجال الطباعة في القرن الخامس عشر قادا إلى تحولات عميقة في طبيعة الكارتوغرافيا الأوروبية وذيوعها واستخداماتها. أتت الخرائط لتشبه صور اليوم، عاكسة ومعززة نظرة جديدة للمكان، بوصفه امتدادًا اقتصاديًا.
أما الفصل الرابع “رسم خرائط دولة إقليمية” فيرسم الرابطة بين التحولات المجتمعية والتقنية الواسع التي نوقشت في الفصل الثالث، ويبين التأثير السياسي للكارتوغرافيا بطريقة مباشرة على بنى السلطة. حينما توسع الحكام في استخدام الخرائط وإنشائها، شكلت الكارتوغرافيا التحول في طريقة فهم الحكم الإقليمي، وساعدت كذلك على تقويض الأسس غير الإقليمية للسلطة. مضت السلطة من كونها معرَّفة بادعاءات على أماكن معينة، مقدمة في قوائم نصية غالبًا، إلى كونها مفروضة على امتدادات مكانية متجانسة، معرَّفة بأفكار كارتوغرافية، ومرسومة على خرائط.
وبمد نطاق الرؤية خارج أوروبا، يبرز الفصل الخامس “رسم الخرائط في العالم الجديد والانعكاس الاستعماري” عملية الانعكاس الاستعماري؛ إذ استُخدمت الأفكار والممارسات الجديدة للحكم الإقليمي على نحو حصري أول مرة في الأمريكتين، ثم ُطبقت على التفاعلات داخل أوروبا بكاملها. استلزم التوسع الأوروبي في العالم الجديد منظومة جديدة من الأفكار والأدوات لفرض الحكم عن بُعد، وشكلت تقنيات إعداد الخرائط المطورة حديثًا والأفكار الملهمة كارتوغرافيًا جزءًا رئيسًا من هذه الذخيرة الجديدة؛ إذ أتاح إعداد الخرائط في بداية العصر الحديث للحكام أن يصوغوا الادعاءات السياسية ومنازعاتهم عليها من دون معرفة فعلية عن الإقليم موضع الادعاء، أو ما يوجد فيه. على هذا النحو اقترن استخدام الأدوات الكارتوغرافية من قبل الحكومات والصيغة الإقليمية الحصرية للحكم التي جعلتها ممكنة –بالتوسع الاستعماري في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وهو ما كان طليعة لتطبيق ذلك لاحقًا داخل الدول الأوروبية نفسها وفيما بينها.
ولتقديم مزيد من الدعم التجريبي حول دور إعداد الخرائط في التحول السياسي، يختبر الفصل السادس “معاهدات السلام والتحوّل السياسي” أبرز تسويات السلام الأوروبية في أوائل العصر الحديث، إذ تكشف أهداف الفاعلين السياسيين التفاوضية وممارساتهم – ونصوص معاهدات السلام الناتجة من ذلك- عن أسلوب وتوقيت التحول من السلطات المعقدة التي صبغت الأنظمة القروسطية إلى الخضوع للادعاءات الإقليمية المعرَّفة حصريًا بحدود خطية.
يضيق الفصل السابع “رسم الخرائط وأقلمة فرنسا” بؤرة عدسة التحليل على حالة توضيحية واحدة، هي فرنسا؛ فقد اتبعت أقلمة الحكم في فرنسا مسارًا تمثيليًا، وإن كان يساء تفسيره في الغالب، من تكتل معقد من ادعاءات السلطة القروسطية نحو دول معرَّفة بحدود، إقليمية على نحو حصري، ما بعد ثورية. وكانت الخرائط أساسية في هذا التحول سواء بوصفها أدوات مكّنت الادعاءات الجديدة للسلطة والسيطرة، وفي الوقت نفسه، خلقت الرسومات التجارية الجديدة لفرنسا في القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر شروط إمكان جديدة للطريقة التي فكر بها حكام فرنسا في حدود ملكهم، معيرة قوة جديدة لفكرة الحدود الفاصلة حول إقليم مكاني متجانس.
أخيرًا، يطبق الفصل الثامن “الدولة الكارتوغرافية اليوم” الرؤى النظرية المستمدة من التحليل التاريخي السابق على تساؤلات محددة بخصوص التغيير السياسي الجوهري الراهن. باستخدام المضامين السابقة القابلة للتعميم لهذه الحالة التاريخية، يركز هذا الفصل بالتحديد على تداعيات التقنيات الكارتوغرافية على الأفكار السياسية والممارسات والمخرجات المعاصرة. فتطبيق تقنيات المعلومات على إعداد الخرائط يخلق الآن أهم التحولات في الكارتوغرافيا منذ بدايات العصر الحديث، بما يوفر مناسبة مثالية للتفكر في التغيرات التي يُحتمل أن تطرأ على الدولة. بالتركيز على التداخل بين التقنيات التمثيلية والسلطة السياسية، يُعيد هذا الكتاب النظر في تأطير المسائل المعاصرة، ففضلاً عن طرح وسيلة جديدة لتمحيص طرائق دعم الدولة ذات السيادة وتحديها في الوقت نفسه.