الأزمنة السائلة: العيش في زمن اللايقين
زيجمونت باومان (1925 – 2017) سوسيولوجي بولندي اشتهر بأعماله في نقد الحداثة الغربية ومنها: “الحداثة والهولوكوست” و “الحداثة السائلة” و “الحداثة والإبهام”. تتميز أعمال باومان بعمقها وبساطتها ووضوحها في نفس الوقت وقد تولى الدكتور حجاج أبو جبر – المتخصص في النقد الأدبي وأعمال باومان- ترجمة أعماله إلى العربية بدأب واتقان.
وكتاب “الأزمنة السائلة: العيش في زمن اللايقين” الذي نحن بصدد تقديم عرض له هو جزء من “سلسلة السيولة” التي كتبها باومان في العقدين الأخيرين من حياته واختتم بها أعماله الناقدة للحداثة، وهي تتكون من عدة أجزاء تصدر تباعًا عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر – بيروت
ولباومان أسلوب شبيه بأسلوب الدكتور عبد الوهاب المسيري في تناول مواضيعه، فالمواضيع الرئيسية التي يعمل عليها يخصص لها عدة كتب رئيسية لتبيان أطر معالجتها النظرية، والعمل على بناء نماذجها التفسيرية، وعلى هذا تتحول أعماله الأخرى إلى دراسات حالة للمواضيع الرئيسية التي تشغله. ولاختبار نجاعة نماذجه التفسيرية فيها. لذلك تتميز أعمال باومان بكونها كلاً يشد أجزائه بعضها البعض، وإن كان أحد عيوب ذلك تكرار لازم في الأفكار لمناقشتها من زوايا مختلفة. في هذا الإطار يمكن القول أن كتب باومان الرئيسية أربعة:
- أهل التشريع وأهل التأويل (1987)
- الحداثة والهولوكوست (1989)
- الحداثة والإبهام (1991)
- الحداثة السائلة (2000)
بينما تندرج بقية أعماله تحت عنوان دراسات الحالة، ومنها سلسلة السيولة، وبعض الكتب الأخرى كحالة الأزمة وغيرها.
الأزمنة السائلة هي حياتنا في العالم المعاصر، وهي تعاني من تحول هياكل المجتمعات من الحداثة الصلبة إلى الحداثة السائلة، وهي تحولات أجملها باومان في المجموعة التالية:
أولاً: الأشكال الاجتماعية، بمعنى الأبنية التي تحدد الاختيارات الفردية، والمؤسسات التي تضمن دوام العادات وأنماط السلوك المقبول لم تعد قادرة على الاحتفاظ بشكلها زمانًا طويلاً، ولا أمل لها في ذلك لأنها تتحلل وتنصهر بسرعة أكبر من سرعة إعادة تشكلها.
ثانيًا: الانفصال، بل الطلاق المعلق بين كل من السلطة والسياسة؛ ففي هذا الزمن ينتقل جانب كبير من سلطة الدولة الحديثة خارج إطار الدولة بعيدًا إلى الفضاء العولمي، أما السياسة بمعنى تحديد اتجاهات الفعل وأهدافه فقد ظلت سياسات محلية كما كانت من قبل لكن تكمن مأساتها في أنها مجبرة على مواجهة قوى عالمية خارجة عن سيطرتها.
ثالثًا: الانسحاب التدريجي الدائم للدور الاجتماعي للدولة وتقليص الضمان الاجتماعي المدعوم من الدولة ضد عجز الأفراد أو ضد المصائب، وهو ما يقوض الأسس الاجتماعية للتضامن الاجتماعي ويفكك مفهوم “المجتمع” نفسه من جذوره.
رابعًا: مع سيولة الأبنية الاجتماعية يصبح التفكير والتخطيط طويل المدى فعلاً من الماضي، ويتحول التاريخ السياسي وأنماط الحياة الفردية إلى سلسلة من مشروعات وحلقات لا نهائية بالأساس من دون سلسلة مترابطة يمكن وصفها بدقة في إطار مفاهيم من قبيل “التطور” و “النضج” و “التدرج الوظيفي” و “التقدم”.
خامسًا: انتقال مسئولية حل المشكلات المعقدة التي أفرزتها ظروف دائمة التغير وشديدة التقلب إلى كاهل أفراد يتوفع منهم أن “يكونوا أحرارًا في اختيارهم”، وما من وصفات يمكن أن يتبعها ذلك الفرد المسكين أو يلومها في حال فشله. وبالتالي فالفضيلة المطروحة هي “المرونة” أي القدرة على تغيير التكتيكات والأساليب (بما فيها الأخلاقية) بمجرد إشعار قصير.
الاستثمار في الخوف
يؤكد باومان أن الاستثمار في الخوف هو التجارة الرابحة في زمننا المعاصر. إن فكرة “المجتمع المفتوح” ترمز في أصلها إلى تقرير المصير لمجتمع حر يرى انفتاحه، لكنها في هذا الزمن تعني تجربة مفزعة لأناس يعانون من التبعية والعجز والبؤس، أناس يواجهون قوى لا يستطيعون السيطرة عليها ولا يفهمونها تمامًا. تدفعنا المخاوف إلى القيام بفعل دفاعي، وعند القيام به فإنه يحول الخوف إلى وجود مباشر وملموس، فاستجاباتنا هي التي تعيد صياغة الهواجس المخيفة باعتبارها واقعًا يوميًا يجسد كلمة الخوف المجرد. إننا عاجزون عن استقراء مسار التغيير، فضلاً عن السيطرة عليه، وبالتالي فإننا نركز على أمور يمكن التأثير فيها، أو نعتقد أن بإمكاننا التأثير فيها، وهكذا ننشغل بتحديد “العلامات السبعة للسرطان”، و “الأعراض الخمسة للاكتئاب”، وزيادة نسبة الكوليسترول، والتوتر والسمنة. باختصار إننا نبحث عن منافذ بديلة نفرغ فيها فائض الخوف الذي لا يجد له منافذ طبيعية.
ليست الهزات الوجودية شيئًا عارضًا في التاريخ الإنساني بل إنها معتادة، وما يميز عصرنا أنها أصبحت لصيقة بالتفاصيل الصغيرة لحياتنا اليومية، وقد نتج هذا في جانب منه عن تفكيك شبكة الرعاية والأمان الاجتماعي التي وعدت بها دولة الرفاه، فتحولت الدائرة المفرغة التي نعيش فيها أزيحت من مساحة “الأمان الاجتماعي”، إلى مساحة “الأمان الشخصي”.
إن انسحاب الدولة من المهمة التي استمدت منها شرعيتها طوال القرن العشرين يثير من جديد قضية الشرعية، لأن تقلبات السوق العنيفة قضت على إمكانية الحماية الدستورية للمكونات الاجتماعية وتقويض حقوق الاحترام الاجتماعي والكرامة الشخصية.
إن أحد سمات زماننا السائل هو تحول قضية السلامة الشخصية إلى قضية سياسية كبرى، ما غطى على انتهاك الحقوق الاقتصادية والاجتماعية الدائم. ويوفر انتشار نمط السياسيين البيروقراطيين لهذا التحول مرساته ودعائمه، فهم لايعيرون قيم الديمقراطية والحفاظ عليها أي أهمية، في مقابل اهتمامهم بصورتهم الشخصية رغبة في المزيد من السلطة، مايجعل الحل السهل أمامهم هو الاستثمار في الخوف، أي تقوية قوى الأمن والنظام والعسكر لمواجهة “التحديات الإرهابية”، والفوز بالحكم دورة أخرى.
الحرب على الإرهاب إذن هي أحد أشكال هذا الاستثمار الكبير في الخوف، فالإرهابيون على العكس من أعدائهم المعلنين، لايشعرون أنهم مقيدون بالموارد المحدودة التي يملكونها، فعندما يضعون خططهم الاستراتيجية والتكتيكية، يمكنهم أن يفيدوا من ردات فعل العدو المتوقعة؛ فإذا كان الإرهابيون يستهدفون نشر الرعب بين أهل العدو، فإن جيش العدو وشرطته سيحرصان على تحقيق هذا الغرض بما يفوق قدرات الإرهابيين أنفسهم.
نفايات بشرية
قبل قرن من الزمان قالت روزا لوكسمبورج: “مع أن الرأسمالية تحتاج إلى منظومة اجتماعية غير رأسمالية لتكون بيئة تشهد تطورها، فإنها تتقدم بالتهام البيئة نفسها التي يمكنها وحدها أن تضمن وجودها”.
يبدأ باومان الفصل الثاني من الكتاب بهذا الاقتباس، ويخرج به عن إطاره المحلي الذي قصدته به روزا لوكسمبورج إلى إطار عالمي معاصر.
الفقر في حركة دائبة، ليس لأن الثروة تطارده، بل لأنه يتعرض للإجلاء عن مناطق داخلية نائية مستنزفة تغيرت أحوالها. إن معدل البشر الذين جعلهم الانتصار العولمي للرأسمالية زيادة فائضة يزداد بلا انقطاع، وأوشك على تجاوز مقدرة الكوكب على إدارته، وربما تختنق الحداثة الرأسمالية من نفاياتها التي لا يمكنها استيعابها من جديد. ثمة فائض سكاني لا يمكن إعادة دمجه في أنماط الحياة “الطبيعية” ولا يمكن إعادة تكييفه بحيث يصبح مرة أخرى من الأعضاء “النافعين” في المجتمع، وما إن تُسَّدُ قنوات تصريف الفائض البشري حتى تصبح الحروب والمذابح القبلية والميليشيات المسلحة ومهربي المخدرات الذين يدعون النضال من أجل الحرية هم أنابيب التصريف الجديدة، فهم يستوعبون ذلك الفائض السكاني ويدمرونه أيضًا في الوقت المناسب.
تتمثَّل أحد أفظع تبعات العولمة في تحرير الحروب من القيود والضوابط، فمعظم أعمال الحرب الراهنة وأبشعها تقوم بها كيانات غير الدولة، كيانات لا تخضع لأي دولة أو قوانين على شاكلة قوانين الدولة، إنها تساهم في التأكل المتواصل لسيادة الدولة. وهكذا يجد أغلب سكان المناطق المنكوبة بالنزاعات أنفسهم في فضاء بلا قانون. وفي غياب القانون يجدون أنفسهم مضطرين للفرار خارج حدود وطنهم وهم محرومون من دعم سلطة دولة معترف بها يمكن أن تحميهم. وفي الطريق إلى المخيمات يُجرَّد اللاجئون من كل عنصر فريد في هوياتهم عدا عنصرًا واحدًا، ألا وهو اللاجئ “غير الشرعي”. فيتنزلون درجة تلو درجة في إنسانيتهم ليتحولوا إلى مجرد كائنات لا تمتلك شيئًا سوى “حياة عارية”. إن اللاجئين هم التجسيد الحقيقي لما يسميه باومان “النفايات البشرية”، فليس لهم وظيفة نافعة يقومون بها في بلد الوصول والإقامة المؤقتة، وليس لهم نية ولا إمكانية واقعية تبشر بإمكانية استيعابهم واندماجهم في الجسد الاجتماعي الجديد، فما من عودة ولا طريق إلى الأمام. وقد وصل الكوكب الأن إلى حالة الامتلاء، وهذا يعني، ضمن ما يعني أن العمليات الحديثة المعهودة مثل بناء النظام والتقدم الاقتصادي تحدث في كل مكان، وأن “النفايات البشرية” تُنتج في كل مكان، لكن أدوات تصريفها التي أنتجتها الحداثة في مرحلتها الصلبة كالاستعمار قد انتهت صلاحيتها.
الدولة والديمقراطية وإدارة الخوف
في هذا الفصل وما يليه يتعرض باومان مرة أخرى لعملية إدارة الخوف في المجتمعات المعاصرة. ماهو سبب فقدان الأمان؟
يجيب باومان أن سببه ليس ندرة أساليب الحماية، بل توسعها وعدم وضوح نطاقها. إن المجتمع العلماني الحديث قام على دعم نزعة فردانية وظل يعيش على الرمال المتحركة المتمثلة في الطوارئ بعدما قضى على الجماعات والكيانات القديمة التي كانت تحدد قواعد الحماية وتراقب تطبيقها. وقد لعبت أوروبا دورًا كبيرًا في هذا التحول كما لعبته في كل التحولات التي شهدها العصر الحديث.
أولاً: ظهر نوع من التقدير المفرط للأفراد المتحررين من القيود المفروضة من جانب الشبكة الكثيفة للروابط الاجتماعية.
ثانيًا: الأفراد الذين جُرِّدوا من الحماية الاجتماعية لم يكونوا كلهم على نفس المستوى من “النباهة” الذي يؤهلهم لخوض غمار المنافسة الاقتصادية، فقد اكتشف أكثرهم فيما بعد مدى ضعفهم وعجزهم وهشاشتهم.
وهكذا بينما كانت الثورة الحديثة تقضي على المجتمع القديم وروابطه كان لزامًا عليها أن تقدم نوعًا جديدًا من الدعم للأفراد الذين لم ينتصروا في معركة المنافسة الاقتصادية. وخلافًا للاعتقاد السائد كانت الحماية (بمعنى التأمين الجمعي ضد المصائب الفردية)، وليس إعادة توزيع الثروة، هي التي تقع في قلب اهتمام “الدولة الاجتماعية” التي أفضى إليها بقوة ثابتة تطور الدولة الحديثة. وقد انقسمت شبكات الحماية التي بنتها وأدارتها الدولة في مرحلة الحداثة الصلبة إلى قسمين: إما شبكات حماية مشيدة عن قصد وتصميم، أو شبكات حماية تتطورمن تلقاء نفسها. وتتمثل النوعية الأولى في مشاريع مؤسسات الرفاه وتعميم التعليم والإسكان الاجتماعي ومشاريع الرعاية الصحية، أما النوعية الثانية فتتمثَّل في اتحادات العمال والنقابات وأنواع التكافل التي كانت تتطور في البيئة المستقرة نسبيًا لما يسمى “المصنع الفوردي”، وهو نموذج من المصانع قائم على التزام طويل الأجل بين صاحب رأس المال والعمال. وقد مثَّلت كل تلك الأدوات في مرحلة الحداثة الصلبة نوعًا من أنواع شبكات الحماية الاجتماعية الحديثة تمكن أطرافها من القدرة على التفكير والتخطيط طويل المدى والبحث عن نموذج توافقي للعيش المشترك. ومكّنت من استئصال المخاوف الكبرى أو على الأقل دفعها إلى هامش الحياة من مثل الخوف من مصائب القدر أو الحوادث القاتلة، وفوق ذلك كان بإمكان من يتعرضون لمثل تلك المصائب التعويل على الجماعة باعتبارها جسدًا واحدًا، فكان التكافل يعيد صياغة القدرة على العمل ويحولها إلى رأس مال بدبل يستطيع موازنة القوة المجتمعية لكافة الأنواع الأخرى لرأس المال.
ولدت المخاوف الأولى ذات الطابع الحديث في أثناء الجولة الأولى من تحرير السوق وسيرورة النزعة الفردية، لكن الحداثة الصلبة استطاعت التغلب على تلك المخاوف بإحلال التضامن محل الانتماء كضمانة أساسية للحياة. لكن الجولة الأخرى من تحرير السوق التي بدأت في السبعينات لم تثمر أشكالاً جديدة من إدارة الخوف العام، بل جرى خصخصة طريقة التعامل مع الخوف، وتركت للمبادرات والجهود المحلية، وانتقلت في جزء كبير منها إلى عناية الأفراد وبراعتهم ودهائهم، وإلى الأسواق التي تكره بشدة وتقاوم كافة أشكال التدخل الجماعي (السياسي) ناهيك عن السيطرة الجماعية (السياسية).
وهكذا حلَّت المنافسة محل التضامن بعد أن حل التضامن محل الانتماء، ولا يجد الأفراد الأن سندًا إلا مواردهم الضئيلة للحماية، وهكذا رغم أنهم تحولوا إلى أفراد “صوريين” بحكم القانون، إلا أنهم افتقدوا كافة وسائل الحماية التي وفرتها لهم المجتمعات القديمة، والحداثة الصلبة على حد سواء.
خاتمة
تقدم لنا أعمال باومان في مجموعها صورة نقدية مركزة للعالم الحديث، و ربما كانت أحد الانتقادات الموجهة إليها أن أكثر تفاصيلها مستقاة من تطور الحياة داخل المجتمعات الغربية، لكن هذا الفصل التام بين عالمين غربي وغير غربي ربما يكون غير مناسب للوقائع التي يعيشها عالمنا المعاصر، فكما بيَّن باومان نفسه في الفصل الثاني من هذا الكتاب كيف تعتاش الرأسمالية على أكل ذيلها، فكل تقدم وتراكم اقتصادي في ركن ما من العالم يعني بؤسًا ونفايات بشرية في ركن أخر، وهكذا فإن ترجمة أدبيات نقد الحداثة ليست عملاً نظريًا من برجٍ منعزل لا يناسبنا كما قد يُقال، بل هو شيء من صميم المعرفة بعالمنا. فنحن والغرب والشمال والجنوب جزء من تركيبة الحداثة الرأسمالية، غير أن مواقعنا مختلفة. وكما تقول د. هبة رءوف عزت في تقديمها للكتاب: التفكير في الحداثة وبيان تحولاتها ليس توثيقًا ولا تأريخًا ولا تدقيقًا فحسب، بل قيمته تنبع من عمليته ونفعه في أن يشرح لنا ما يجري فعلاً، والنصوص من هذا النوع هي نصوص إبداعية لأنها كاشفة ومهمة.