ظل موضوع الحداثة موضوعًا أثيرًا وخلافيًا في الفكر العربي المعاصر، قلّبه أكثر من مفكر مغربي ومشرقي وفق رؤيته وانتماءاته الأيديولوجية والفكرية، ولكن ظلت أسئلة بعينها من تلك الأسئلة مركزية تتردد وتتوالد بصيغ متجددة هي تلك التي قاربها الباحث المغربي الدكتور كمال عبد اللطيف في كتابه “أسئلة الحداثة في الفكر العربي من إدراك الفارق إلى وعي الذات” الصادر مؤخرًا عن “الشبكة العربية للأبحاث”.
كان الباحث قد سبق له أن اهتم بالموضوع في كتابيه السابقين: “أسئلة الفكر الفلسفي في المغرب” وكتاب “أسئلة النهضة العربية: التاريخ. الحداثة. التواصل“، معتبرًا أن كتابه جزء ثان من كتابه أسئلة النهضة العربية، وهو ما يرفعه لبنة ضمن مشروع فكري يواصل فيه أستاذ الفلسفة السياسية والفكر العربي المعاصر بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بالرباط، ملاحقة واقع التخلف العربي، أو ما سماه بالتأخر التاريخي وأوهام الانكفاء الذاتي للانفتاح على العالم، والالتحاق بـ”عالم أكثر رحابة وتاريخ أكثر إنسانية”.
وضع كمال عبد اللطيف كتابه في سبعة فصول وتذييل اهتم الأول بإرهاصات الحداثة السياسية العربية، وتوقف الفصل الثاني عند عقلانية الفكر العربي النهضوي، وخصّص الفصل الثالث والسادس لقضايا المرأة في الفكر العربي المعاصر وسبل النهوض بها ضمن قيم التحرر؛ الموضوع الذي قاربه في الفصلين الرابع والخامس في بعده النظري والسياسي وما تمر به المنطقة العربية من ظواهر سياسية واجتماعية: ظاهرة الإرهاب وأسئلة الأقليات الإثنية والدينية وإكراهات العولمة، وأنهى الكتاب بتذييل تحت عنوان: حوار المشرق والمغرب أم كسر مرجعية التقليد؟ وكشف فيه زيف التمييز الثقافي وتلك الثنائية الزائفة التي اختلقتها الايديولوجيات والصراعات السياسية والتي ساهمت في تكريس حال التخلّف والتأخر التاريخي الذي تعيشه المنطقة العربية.
الحداثة السياسية ضرورة حياتية
اللافت في هذا الكتاب هو تخليه عن الجانب التشخيصي الواصف، وهو ما يحتاجه أي مشروع فكري يتوجه نحو الإصلاح والمستقبل، فتشخيص الحال من الضرورات البحثية الأولى، لأنه عبر التشخيص تبدأ مواجهة العلل لتنقية الفكر العربي من تلك التشوّهات التي ألحقها به الفهم الخاطئ للدين والصراعات السياسية الإقليمية. اختار الباحث المضي مباشرة إلى الاهتمام بعوائق الحداثة السياسية في فكرنا المعاصر مثمّنًا كل المحاولات السياسية العربية في النصف الثاني من القرن العشرين دون العودة بالموضوع إلى التجاذبات والمفاضلات، ولكنه ينتقد إيقاعها وسرعتها: “ننظر إلى علامات التحوّل بكثير من الحذر والاحتياط، بحكم مظاهر التردد، بل التراجع التي تتحكم في هذه العلامات في أغلب البلدان العربية”.
يعتبر الباحث أن مسألة مشروع الحداثة مشروع تاريخي مفتوح، وعلى العرب أن يجددوا أسئلته دائمًا فـ”الحداثة السياسية تقدم أفقًا في النظر والعمل يمكّن العرب في حال بنائه وإعادة بنائه من تهديم أوثانهم القديمة الجديدة، ويسعفهم في تقويض دعائم الاستبداد السياسي، ومختلف أشكال الحكم المطلق… لإبداع فكر سياسي جديد، مطابق لطموحاتنا المتعلقة ببناء حياة مشتركة وعادلة”.
ولئن تجنب الباحث تشخيص وجرد المكاسب والمنجزات، كما قال في بداية البحث، والذهاب للحديث عن العوائق التي تحول دون تحققه، فإنه أقدم في المقابل على مقاربة فكرية تاريخية للفكر السياسي العربي وموقفه من منظومة الحداثة السياسية، من أجل إظهار الأسئلة التي لم يقع طرحها في هذا المشروع التحديثي بشكل جدي؟
يأخذ موضوع العقلنة والتيارات العقلانية في الفكر العربي المعاصر قسمًا مهمًا من الكتاب، ويتوقف الكاتب عند أشكال العقلانية الوضعية منها والنقدية ورموزها وقادتها من زكي نجيب محمود وقسطنطين زريق وفؤاد زكريا، إلى عبد الله العروي ونزعته التاريخانية، ومحمد عابد الجابري ونزعة النقدية في نقد العقل التراثي. ويحاول الباحث أن يعرّف بها ويرسم محدوديتها ليرى ضرورة التأصيل النظري لعملية التحديث واستيعاب مكاسب الآخر من منظور نقدي، ليؤهل الفكر لصهر ما سماه بـ”المتعدد والمختلف المتناقض، ضمن جدلية التمثل والنفي والتجاوز”. وهو ما يخلق ديناميكية تحمي الفكر من التكلس والانغلاق التي من شأنها أن تعيده لإنتاج التخلف عوضًا عن أن يكون قاطرة التنوير التي تدفع بالأنظمة والشعوب نحو الأمام.
المرأة سر كل عملية تحديث
يخصص الكاتب قسمًا مهمًا من الكتاب لطرح قضايا المرأة في الفكر العربي المعاصر وحريتها في ضوء ثقافة الحرية نفسها، باعتبارها ثقافة العصر لذلك ينطلق بتصدير لنظيرة زين الدين “لا نستطيع، أردنا أم لا نرد، أن نقف حاجزًا في سبيل تيار النهضة الحديثة وما تتحفنا به من آراء جديدة في علم الاجتماع، فالدين قد تحرر، والعلم تحرر، والعقل تحرر، والفكر تحرر، والفن تحرر، والمجتمع تحرر، وكل شيء في العالم أفلت من يد الاستعباد والرق”.
كمال عبد اللطيف: “الفكر تحرر، والفن تحرر، والمجتمع تحرر، وكل شيء في العالم أفلت من يد الاستعباد والرق”
انطلاقًا من هذه الحتمية التاريخية، يحاول الباحث أن يطرح بالقياس حتمية تحرر المرأة. والعمل على “تعزيز وتقوية مكانتها في مجتمعنا وثقافتنا”، ولكنه يرجع مسألة قضية المرأة إلى قضية إنسانية تتجاوز، إذا ما نظرنا إليها من زاوية تقسيم العمل والناحية الاقتصادية، المسألة الجنسية بل تتعداه إلى نمط تفكير وانتاج وسياسة تدبير العالم، فالصورة النمطية السائد في عالمنا عن المرأة تعد محصلة موضوعية لتاريخ من التدبير الاجتماعي والسياسي والثقافي المعبر عن أشكال الصراع الاجتماعي، ولذلك تغيير هذه الصورة سينجر عنه مواجهة كل هذه العوالم التي أنتجته وهذا ما واجه رواد الاصلاح في العالم العربي عبر التربية والتعليم وغيرها. فالنظرة الدونية للمرأة التي كرستها العادات والتقاليد والأعراف، واختلاطها بالشريعة والدين حولها إلى قوانين ثابتة أنتجت تلك الصورة المنحطة عن المرأة باعتبارها كائنًا من درجة ثانية. ويستند الباحث خاصة على رؤية قاسم أمين لجدلية النهضة وارتهانها بتحرر المرأة بداية بحقها في التعليم إلى رفع الحجاب ومساواتها مع الرجل في مسألة الحقوق الدستورية والمدنية. ويستفيض في تحليل مفهوم التمكين الذي اقترن بالمرأة اليوم في البحث عن مساواة ممكنة بينها وبين الرجل في كل القطاعات.
وحول الحرية وتمظهراتها يقلب الباحث منجز لطفي السيد وعبد الله العروي وناصيف نصار، خاصة الذي يراه قد استفاد بدوره من منجز الفكر الغربي والفكر العربي، طه حسين وسلامة موسى وفرح أنطون وغيرهم، ويربط هذه الأدبيات لمفهوم الحرية بإنتاج الليبرالية العربية؛ “خطاب النجاعة في العمل فوق كل اعتبار”. ومن ثم يقدم الكاتب أطروحات فكرية تنادي بضرورة إعادة بناء الحرية في الفكر العربي وفق التعقلن حتى لا تفقد الحرية صوابها.
العرب والعالم
في قسم العرب والعالم نحو تواصل متكافئ ومنتج، يتوقف الباحث عند ما أحدثته السياسات الدولية من وضع جديد ضرب السلام الدولي، مما جعل منسوب العنف يتعاظم ويرتفع بشكل غير مسبوق في ظل ضعف المنظمات الدولية وعدم فدرتها على مجابهته بالحلول أو بالقوانين. فسادت لغة التسويغ التي لا تتردد في توظيف ترسانة القوانين واسلحة الدمار، لترهيب العالم وفرض اختياراتها السياسية والاقتصادية عليه”، ويعتبر أن الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين هو الذي وتّر العلاقة بين العرب والعالم وسبب العداء التاريخي بين العرب والقوى الدولية الداعمة لإسرائيل، مما أنجر عنه حالة اللاّسلم في المنطقة العربية.
يعتقد أن من واجب العرب السعي إلى المشاركة في “إعادة ترتيب نظام العالم”، ورأى ذلك ممكنًا بالانخراط الإيجابي في مواجهة هذه القضايا والمساهمة في عملية إيجاد الحلول المناسبة لها لإنتاج ما سماه بـ”حتمية العمل المشترك، الذي تفرضه قيم التساكن والتعايش”.
حاول الكاتب التصدي لذلك في ضوء قراءة كتاب فوكوياما “نهاية التاريخ وصدام الحضارات”، وأطروحة هانتغتون “صدام الحضارات” التي يراها معيبة ومليئة بالمغالطات وليست متماسكة نظريًا. وهذا ما جعل من المبحث في ظاهرة الارهاب أمرًا ضروريًا في الكتاب، باعتباره ظاهرة الظواهر منذ أحداث أيلول/سبتمبر التي تولد عنها خطاب سياسي جديد يقود السلوك السياسي هو الحرب على الإرهاب، الذي تحول بدوره إلى شرعية الاعتداء على الآخرين وشرعية جديدة لاستعادة تاريخ الاستعباد والاستعمار.
قضية الأقليات والمواطنة
يطرح الدكتور كمال عبد اللطيف سؤال الأقليات الإثنية التي صارت من القضايا المركزية في ظل التحولات الجيوسياسية والحروب، ويقاربها من ناحية البحث عن تعزيز قيم المواطنة طمعًا في ديمقراطية محلوم بها، وأنظمة تعوّض الأنظمة الاستبدادية القائمة على التمييز بين مواطنيها. تلك الأنظمة التي تستغل موضوع الإثنيات لزرع الفتن بين الجماعات المكونة للمجتمع للسيطرة عليه. كون الصراعات التي تنشأ بين الأقليات أو بين الأقليات والجنس المهيمن، هدفها إضعاف فكرة المواطنة والانتماء الجماعي للوطن على مبدأ المساواة. فالمشروع السياسي الحداثي بقيمه الجديدة الإنسانية هو ما “يمكن أن يساعدنا في تفكيك كثير من المسلمات العقائد الاثنية، وقد يسعفنا ببناء المشترك الإنساني”. غير أن هذا التنوع الإثني الذي كان سببًا في تطور الكثير من المجتمعات الأوروبية والأمريكية كان وبالًا على المجتمعات العربية، التي أصبحت سرطانات تأكلها وتقف أمام تقدمها. لتواجه الآن بخطر أكبر هو العولمة التي تهدد كل الهويات الصغرى. الهويات الضعيفة والمفتتة التي لم تنتج مناعة تحميها من المحو.
ينهي الدكتور كمال عبد اللطيف كتابه بفصل عن ثنائية المشرق والمغرب، منطلقًا من أحكام المفكر التونسي هشام جعيط وعبد العروي وموقفهما من المنتج الفكري المشرقي المحدود. وبعد أن يواجههما بأفكار محمد أركون في الموضوع الذي يرى زيف هذا التميز بسبب وحدة السقف المرجعي ووحدة النظام المعرفي، ليصل في بحثه إلى أن هذا التميز الذي يطلقه مرة المشارقة ومرة المغاربة ليس إلا من قبيل الأوهام، وأن الأفضل لنا أن نركز اهتمامنا في كيفية المساهمة في إنتاج المعنى والمعرفة داخل ما يسمى بالقيم الكونية، والتصدي للعراقيل التي تقف أمام تطور الفكر النقدي الحر في عالمنا، فـ”لا أحد ينكر أن الحصار مضروب على شرارات النقد الحارقة لا يزال قويًا وفعالًا، وأن سقف مرجعيات النظرة التقليدية لا يزال يمارس دوره في إطفاء جذوة المغامرة والابتكار”. ومع ذلك تبقى المخاطرة من الحتميات التي يجب أن نخوضها لنقتلع لأنفسنا مكانة ووجودًا في هذا العالم المركب.
يبقى السؤال الذي يخامرني وأنا أقلب الصفحة الأخيرة من الكتاب: هل فعلًا تحرر الكون من كل شيء كما قالت المفكرة اللبنانية نظيرة زين الدين، أم سقطنا في عبوديات جديدة ورقًا جديدًا، لعل الحداثة واحدة من أقنعته الكثيرة؟
رابط المقال:
https://www.ultrasawt.com/%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8-%D8%A3%D8%B3%D8%A6%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%AF%D8%A7%D8%AB%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%83%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A-%D8%AD%D8%AA%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AE%D8%A7%D8%B7%D8%B1%D8%A9/%D9%83%D9%85%D8%A7%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%8A%D8%A7%D8%AD%D9%8A/%D9%85%D9%86%D8%A7%D9%82%D8%B4%D8%A7%D8%AA/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9