نستكمل رحلتنا التي بدأناها في العدد السابق مع كتاب «الغايات العلمية والعملية لمقاصد الشريعة» للدكتور أحمد الريسوني، حيث ختم الريسوني نبذته المختصرة عن المقاصد العامة للقرآن ببعض الفوائد الإجمالية لمعرفة مقاصد القرآن الكريم، ومنها:
– معرفة مقاصد القرآن الكريم هي المدخل السليم إلى فهم الرسالة القرآنية الإسلامية على وجهها الصحيح، بلا زيادة ولا نقصان ولا إفراط ولا تفريط، فمقاصد القرآن هي ما نص عليه القرآن، وما نزل لأجله القرآن، وما استخلص من جملة معانيه وأحكامه.
– معرفة هذه المقاصد العامة واستحضارها عند قراءة القرآن وتدبره، تمكِّن قارئه من الفهم السليم للمعاني التفصيلية والمقاصد الخاصة لأمثاله وقصصه ووعده ووعيده، ولكل آية وكل حكم ورد فيه.
– بمعرفة مقاصد القرآن يتسدد فهمنا لمقاصد السُّنة النبوية جملة وتفصيلاً، ومن خلال ذلك يتسدد النظر الفقهي والاجتهاد الفقهي.
مقاصد المقاصد في الفقه والاجتهاد الفقهي
يرى الريسوني أن علاقة المقاصد بالفقه هي تماماً كعلاقة الروح بالجسد، والفقه الحق الحي هو الذي تجري المقاصد في عروقه، وهو الذي وصفه ابن القيم بقوله: «وهذا هو الفقه الحي الذي يدخل على القلوب بغير استئذان».
ولهذا جعل الشاطبي شروط المجتهد مجتمعة في أمرين؛ هما: معرفة المقاصد أولاً، وحسن تنزيلها واستعمالها في مواضعها ثانياً.
وأما ابن عاشور فحصر محال اجتهاد المجتهدين في أدلة الشريعة في خمسة، وأكد أنها كلها تحتاج إلى مقاصد الشريعة، وهذه المجالات الاجتهادية هي:
1- فهم النصوص الشرعية بحسب ما تقتضيه قواعد اللغة واصطلاحات الشرع فيها.
2- مقارنة المعنى المستنبط مع غيره من أدلة الشريعة وأحكامها، للتحقق من التوافق بينه وبينها، فيؤخذ به حينئذ بلا إشكال، أو يظهر نوع التعارض، فيعمل عندئذ على التوفيق أو الترجيح.
3- قياس ما لا حكم له في الشرع على نظيره المنصوص على حكمه، بعد التعرف على علته.
4- الحكم فيما يجد من حوادث غير منصوص على حكمها، وليس لها في الشرع نظير تقاس عليه.
5- النظر فيما لم تظهر حكمة الشرع فيه، وتصنيفه ضمن الأحكام التعبدية غير المعللة، أو اكتشاف علته ومقصوده، لإلحاقه بالأحكام المعقولة المعللة.
قال ابن عاشور رحمه الله: فالفقيه بحاجة إلى معرفة مقاصد الشريعة في هذه الأنحاء كلها؛ بمعنى أن المقاصد تدخل في جميع المناحي الاجتهادية.
المقاصد العملية للمقاصد
الدين منهج علم وعمل معاً، والعمل فيه هو بيت القصيد، وعلى هذا الأساس يؤكد الريسوني أن العلوم المنبثقة من الدين والخادمة له لابد من أن تكون ذات مقاصد عملية ومردودية عملية، فالعلم لا يطلب لذاته وبدون فائدة أخرى من ورائه، وفكرة «العلم لأجل العلم» غير مرحب بها في دائرة العلوم الشرعية، بل هي دخيلة عليها ومجرد عبء ثقيل على طلابها.
فحتى القرآن الذي هو أرفع العلوم وأشرفها وأصحها، لم يأتِ ليكون علماً شريفاً يشرف أهله وكفى، بل هو علم لأجل العمل، وقد وصفه مُنزله سبحانه وتعالى بعدة أوصاف عملية، وأناط به مقاصد عملية، فوصفه بأنه «هدى» وأنه «يهدي للتي هي أقوم»، وأنه «يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم»، وأنه «شفاء ورحمة»، وأنه إنما أنزل – هو وغيره من الكتب – «ليقوم الناس بالقسط».
ودعم الريسوني هذه الفكرة بما قاله الإمام الشاطبي في المقدمة السابعة من «موافقاته» بقوله: «كل علم شرعي، فطلب الشارع له إنما يكون من حيث هو وسيلة إلى التعبد به لله تعالى، لا من جهة أخرى، فإن ظهر فيه اعتبار جهة أخرى، فبالتبع والقصد الثاني لا بالقصد الأول، وكل علم لا يفيد عملاً فليس في الشرع ما يدل على استحسانه».
وقال في المقدمة التاسعة: «انحصرت علوم الشريعة فيما يفيد العمل أو يصوب نحوه، لا زائد على ذلك».
الأمور بمقاصدها وعواقبها
تحت هذا العنوان من المبحث الأول في الفصل الثالث والذي جاء تحت عنوان «احتياج السياسة الشرعية إلى مقاصد الشريعة»، يقول شيخ المقاصديين الريسوني: إنه مما لا غبار عليه في الشريعة الإسلامية وفقهها، أن الأفعال لا يحكم عليها بمجرد صورها وظواهرها، ولا بمجرد أسمائها، ولا ببداياتها دون مآلاتها ونهاياتها، بل الحكم الصحيح على أي فعل إنما يكون بالنظر إلى ظاهره وباطنه، والباطن أولى، وبالنظر إلى اسمه وحقيقته، وحقيقته أولى، وفي كل هذه وجوه صاغ الفقهاء قواعد فقهية مستمدة من القرآن والسُّنة، أذكر منها:
– الأمور بمقاصدها.
– المقاصد أرواح الأعمال.
– العبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني.
– نوط الأحكام الشرعية بمعانٍ وأوصاف لا بأسماء وأشكال.
– الأعمال بخواتيمها.
– العبرة بالخواتيم.
– الأمور بعواقبها.
– اعتبار المآلات.
هل معرفة مقاصد الشريعة في متناول عامة الناس؟
يرى الريسوني أن فهم المقاصد والإلمام بها هو الأسهل – أو الأقل صعوبة – ضمن بقية العلوم والمعارف الإسلامية، فالمقاصد أسهل من الفقه ومسائله وأحكامه الدقيقة، وأسهل من علم أصول الفقه وعلم الكلام باصطلاحاتهما ومباحثهما الموغلة في التجريد، وأسهل من علم مصطلح الحديث بشروطه وعلله وجرحه وتعديله، وهي أسهل بكثير من علوم اللغة العربية كلها وخاصة علم النحو الذي نتعلمه ونحن بعد في المرحلة الابتدائية.
فأحكام الشريعة ومقاصدها ليست من قبيل علم الباطن «المضنون به على غير أهله»، وليست من العلوم الذهنية الموغلة في الخصوصية، كما هو شأن المنطق والفلسفة.
وبناء عليه؛ فأحكام الشريعة ومقاصدها:
– يمكن دراستها في أعلى المستويات، وهو مستوى العلماء والدارسين المتخصصين بلغتهم ومصطلحاتهم وتدقيقاتهم واستدلالاتهم.
– ويمكن عرضها وتعليمها في مستوى متوسط يناسب طبقة المتعلمين والمثقفين وأمثال الطلبة الجامعيين غير المتخصصين.
– ويمكن عرضها وتوضيحها في مستوى أدنى من ذلك وأيسر، وهو مستوى عامة الناس، ممن لهم همة واهتمام.>