جدل الدين والسياسة
مع كل ما بلغته عقول البشر من تطور في الفكر؛ لا يزال التناظر واحدًا من أقدم وسائل النظر المعرفي وتحقيق الأقوال وتبادل الرؤى، فلا تكاد تخلو منه حضارة من الحضارات الإنسانية ما دام كان لها من الثقافة والنتاج العقلي حظ ونصيب.
وتراث الأمة الإسلامية يشكل مخزونًا هائلاً يجتر منه أهله المنتسبون إليه، وينهل منه المحبون له، ليس في الأفكار فحسب، بل أيضًا في طريقة العرض والتوصيل والبلاغ للجماهير العريضة، إذ حفل هذا التراث بأخبار عن مجالس المحاورات والمناظرات التي تواجه فيها فقهاء أو علماء كلام أو أدباء؛ مثل: مناظرات الأشعري والجبّائي أو مناظرات الباقلّاني مع المعتزلة، أو مناظرات الهمداني مع الخوارزمي. وغيرها.
ومن هنا كان حرص الشبكة العربية للأبحاث والنشر على إصدار هذا الكتاب، الذي جمع بين دفتيه نماذج لمناظرات راقية وسجالات ساخنة، استمدت أهميتها من راهنية ومركزية موضوعاتها في الجدل الديني والسياسي المعاصر.
وقد وقع اختيار الشبكة على ثلاث مناظرات، تمت جميعها بمنتديات حوارية، حول موضوعات مختلفة الاتجاه، متوحدة من جهة الاحتياج الشديد إلى بحثها والنظر فيها، خاصة في الوقت الراهن؛ وهي: هل ثمة حل في “المشروع الإسلامي”؟، الشريعة بين حكم التغلب والديمقراطية، و “التكفير” و “القتال” في الدعوة الوهابية.
المناظرة الأولى: العلمانية والحل الإسلامي: هل الفكر الإسلامي عقبة في طريق التقدم؟
يقدِّم محرّر الكتاب أحمد سالم للمناظرة الأولى بمقدمة حاول فيها أن يختصر تاريخ الفكر العربي الحديث وسجالاته بين جناحيه الإسلامي والعلماني، ويرى سالم أن الفكر العربي الحديث يعاني من مثلبتين أساسيتين هما الأدلجة والتسيُّس، وهما مشكلتان موجودتان لدى جناحيه الإسلامي والعلماني. وقد أثمرت هاتين المشكلتين توترًا كبيرًا تمثل في الشعاراتية الفضفاضة وانعدام توفر أفق للحل، وأثمر كذلك توسلاً بالدولة كحل لمشكلة “التخلف” التي يعانيها العالم الإسلامي.
حكمت إرادة الأيديولوجيا وغابت إرادة المعرفة لدى الطرفين فظل الفكر العربي يراوح في مكانه مكتفيًا بالمعارك والسجالات ومبتعدًا عن الواقع وحلول المشكلات.
جرت وقائع هذه المناظرة بين الأستاذ شهاب الدين الدمشقي ممثلاً للاتجاه القومي العلماني، والأستاذ عبد العزيز القاسم ممثلاً للاتجاه الإسلامي. وقد قام الأول بفتح باب المناظرة بأسلوب يجذب الانتباه، ويغري القارئ بمتابعة الكاتب، ليجد نفسه بعد قليل مضطرًا أن يوقظ عقله، ويستنفر همته، ويعد أدواته؛ ليرد على السيل المتتابع من تلك الأسئلة والاتهامات المحرجة.
دار محور المناظرة من جانب الدمشقي حول هذه الأسئلة:
*إذا قبلنا شعار الإسلاميين الأول؛ الإسلام هو الحل فهل يحق لنا أن نشك في نجاعة الحل الإسلامي بأن الشريعة الإسلامية قد جُرّب تحكيمها وتطبيقها قديمًا في عصر الخلافة الراشدة، والعصر الأموي والعباسي –وحديثًا- متمثلاً ذلك في بعض البلاد الإسلامية؛ كإيران، والسعودية وأفغانستان- فلم تأت من ورائها الثمرة المنشودة ولا العدالة المطلوبة؟
*إذا كان الخطأ كما يزعم بعض الإسلاميين –على حد قول الدمشقي- ليس في الشريعة، وإنما في طريقة من قاموا على تطبيقها؛ فما الذي يمنع إلتماس نفس العذر للديمقراطية الغربية والتجربة العلمانية طالما أن المشكلة في الحالتين متعلقة بالتطبيق وليس بالنظرية؟
*إذا اعترفنا بما للشريعة من محاسن في قيمها المطلقة، كالحرية والعدالة؛ أليست تلك قيم ينزع الناس إليها دون حاجة لشريعة أو دين، بدليل وصول الغرب إليها مع تنحيتهم للدين وتعاليمه؟
*ألا يُعاني تطبيق الشريعة في العصر الحالي من اختراق القيم والممارسات الغربية العلمانية له كما هو حاصل في تجربة “البنوك الإسلامية”؟
*أليس الحل هو الاستفادة من تجربة الغرب الذي تجاوز الأزمة التي نحياها الآن، وأن تجربته ليست حكرًا عليه، وأنه على ما فيها من نقائض قد أثمرت ثمارًا حسنة كالديمقراطية وحقوق الإنسان؟
ودارت ردود الأستاذ عبد العزيز القاسم حول المحاور التالية:
*هناك وجه أخر للأنظمة الديمقراطية يبرز بشكل تاريخي عما نتج من هذه الحريات من تربع من لا يصلح على منصب القيادة كهتلر مثلاً، مع ما ذاقته البشرية من ويلات الحروب العالمية والاحتلالات الأجنبية، من قتل وتشريد، وحبس وتجويع على يد من يسوقون أنفسهم للناس كرعاة للحرية وحماة حماها. ألا يجدر بنا هنا أن ننظر بتوازن إلى الصورة العامة؟
*ثمة اتفاق عام وأرضية واسعة مشتركة بين القاسم والدمشقي، كما يرى القاسم، حيث أن القيم التي يدعو إليها الدمشقي سبقه إليها رواد النهضة والإصلاح وأوذوا في سبيلها، وعمليًا فالإسلاميون بعامة يشاركون في الانتخابات والاستحقاقات الديمقراطية
*إذا وجدت وسائل غربية ناجعة ومفيدة في عملية النهضة، فإن ذلك لا يعني بحال نفي وسائل وأدوات الأمم الأخرى وعلى رأسها الأمة الإسلامية لحماية القيم، وتجاهل هذه الوسائل ليس من العلمية في شيء.
*لم ينكر القاسم أن الاقتصاد الإسلامي نظام لم يكتمل، لكنه طلب من مناظره أن يقدره قدره، وأن يفرق بين مشروع يحبو في بداياته، وأخر اشتد واستوى على سوقه.
*المجتمع العربي متدين، وأي محاولة لتأصيل الشرعية على أساس مناقض مع أصول الشريعة الإسلامية سيؤدي إلى صراع فكري وعقائدي تذهب معه ريح الأمة.
*أين هو الحل العلماني –على الحقيقة- وأين هي معالمه؟
المناظرة الثانية: حوار حول بيعة المتغلب والاختيار في السلطة
جرت هذه المناظرة في منتدى محاور في أكتوبر 2008.
تمثل إشكالية شرعية ولاية الإمام/ الرئيس المتغلب بالقوة على الحكم أحد أهم مسائل الفقه السياسي الإسلامي، متجاذبة بين كونها مسألة سياسية اكتسبت شرعية بفعل الفقهاء ومنظومتهم الاستدلالية، وبين كونها مسألة سياسية واقعية في العصر الحالي.
دارت المناظرة بين حسابين أولهما يسمي نفسه: “زائر الوسطية”، والثاني: “د. استفهام”.
دارت مناظرة “زائر الوسطية” حول المحاور التالية:
*التغاير الواضح بين المجتمعين الشرقي والغربي لا يمكن اختزاله في طبيعة الحكام أنفسهم، بل يرجع إلى ثقافة المجتمع نفسه التي تشكلت عبر صيرورة طويلة، رسّخت عند الغربيين ثقافة سياسية قائمة على محاسبة الحكام الذين اختارهم الشعب بنفسه، بينما في مجتمعاتنا لم تساعد ثقافته على تطوير فقهه السياسي، وإنما ساعدت على الرضوخ والاستسلام لهذا الحاكم الذي أتى عبر السيف الأملح أو الدبابة.
*ليس المقصود بالتغلب فقط لحظة أو أسلوب الوصول إلى السلطة، بل المقصود جملة من السنن التي تأتي مع الفرد أو العائلة التي وضعت الأمة تحت سلطتها، مثل كيفية التعامل مع المعارضين، وعلى أي أساس يتم اختيار المسئولين، وكيف يتم التعامل مع حرية الرأي؟
*ليس من الإنصاف التعامل مع الديمقراطية من منظور سلبياتها فقط، فثمة اتفاق قائم على الاعتراض على بعض آليات الديمقراطية والسياسات الغربية، لكن لا ينبغي أن يُتخذ ذلك دغلاً للطعن في جدوى الاختيار.
أما ردود “د. استفهام” فدارت حول المحاور التالية:
*ربما كان هناك أثر لثقافة المجتمع في نظامه السياسي من حيث كونه ديمقراطيًا أو استبداديًا، لكن القضية ليست في الملكية أو الجمهورية؛ القضية هي العدل أو الظلم.
*طرح زائر الوسطية، من وجهة نظر د. استفهام، يدور حول نماذج ذهنية تشكل في نهايتها أفلاطونية وهمية بعيدة عن الواقع إلى أقصى درجة. واستدل على ذلك بأن نموذجي التغلب والاختيار لم يكونا حكرًا على أمة دون غيرها.
*لا يوافق د. استفهام على الفصام بين الوعي الديني والإصلاح السياسي، لأن هذا الإصلاح لابد ان يؤسس على قاعدة فكرية متينة، وهي هنا المرجعية الشرعية.
* اتفق الطرفان على أن في بعض التأصيل السلفي ترسيخ لمبدأ الاستبداد، والسلف من هذا براء، ونصوص القرآن والسنة مع حثها على السمع والطاعة، فإنها وضعت لها قيودًا، ولم تجعلها مطلقة مرسخة لمبادئ الاستبداد
*شكل الحكم وهيئته في الشريعة وسيلة وليست غاية، والضابط هو مصلحة الأمة. كما أن ضابط العلاقة بين الحاكم والمحكوم قائمة على مسمى الإسلام؛ فإذا لم يكن الحاكم الذي يحكم المسلمين كافرًا، فله حق السمع والطاعة، وأن هذه الطاعة هي بالمعروف، وأن طاعته غير في واجبة في غير ذلك.
المناظرة الثالثة: الدعوة الوهابية وموقفها من تكفير الممارسات الشعائرية عند القبور
لا يمكن لأي تناول علمي لواقع العالم العربي والإسلامي في المئتي سنة الأخيرة أن يتجاهل الدور المركزي الذي أدته الدعوة الوهابية وامتداداتها السلفية المعاصرة في تشكيل الصورة الفكرية والاجتماعية والسياسية الحالية للعرب والمسلمين، بل إن نظرة يسيرة للصدام بين الحركات الجهادية والعلام الغربي، ومدى حضور المرجعية الوهابية لدى هذه الحركات؛ ستجعل الدور الذي أدته الوهابية أوسع من أن يكون مقتصرًا على العرب والمسلمين.
لعلنا لا نبعد في التقدير إن قلنا: إن مفهومي التكفير والقتال يقعان على رأس قائمة المفاهيم التحليلية الأساسية في تناول الدعوة الوهابية وأثرها في الواقع المعاصر؛ نظرًا للأثر العظيم لهذين المفهومين في صناعة تاريخ الدعوة الوهابية وعلاقتها بالدولة السعودية وأثرها على الاتجاهات والحركات الإسلامية في العصر الحديث.
وعند تدقيق النظر في قضية التكفير لدى الدعوة الوهابية تبرز مباشرة قضية الممارسات الشعائرية التي تمارس حول القبور والأضرحة، والتي عد علماء الوهابية معظمها من جملة النواقض العملية التي توجب خروج مرتكبها من حظيرة الإسلام، بجوار عدد آخر من النواقض كتحكيم القوانين الوضعية ومظاهرة الكفار على المؤمنين. وتدخل في جملة هذه القضايا قضية الموقف من الشيعة (الروافض). وقد كانت هذه القضية محور المناظرة التي دارت بين الأستاذ سليمان الدويش والأستاذ سعيد الكثيري حول موقف الشيخ يوسف القرضاوي من هذه القضية.
دارت مناظرة الدويش حول المحاور التالية:
*ما الفارق الشرعي بين من يستغيث باللات والعزى والمسيح، وبين من يستغيث بأحدٍ من آل البيت؟
*ما هو حكم الاستغاثة بغير الله، سواء كانت الاستغاثة بصنم، أو ملك، أو نبي، أو ولي؟
*استدل الدويش بكلام مطول لشيخ الإسلام بن تيمية من أكثر من مصدر حول تقسيمة الشيخ التوسل إلى أقسام منها ما هو بدعي محرم، ومنها ما هو كفر أكبر مخرج من الملة، مرجحًا –أي الدويش- أن النوع الذي يصدر من الشيعة هو التوسل الكفري المخرج من الملة.
وقد تمحور رد الكثيري حول النقاط التالية:
*ثم فارق كبير بين استغاثة مشركي مكة وغيرهم من الكافرين، والمستغيثين بغير الله من أهل القبلة، وهذا الفارق الجوهري يكمن في صدورها ضمن مضمون كفري خالص، أو ضمن اعتقادٍ بألوهية من يُدعون من دون الله، أو بنوّتهم لله، أو ضمن غلو شديد في الأشخاص من دون الكفر بالله أو الرسول صلى الله عليه وسلم.
*أن مسألة التوسل بالأنبياء والصالحين مما وقع فيه خلافٌ قديم، وإن كان هو يميل إلى كونه من البدع المحرمة، وأنه خلاف الأولى، لكنه يراه أقرب إلى الشرك الأصغر منه إلى الشرك الأكبر.
*أن كلام شيخ الإسلام بن تيمية فُهم خطأ لأنه مختزل ومجتزأ، فابن تيمية وكثير من العلماء يتحدثون عن الروافض بإطلاق، ويعنون بذلك كل طوائف الشيعة بمن فيهم النصيرية والإسماعيلية وغيرها من الفرق المنحرفة.
*هذا التساؤل لم يكن أصلاً ليُطرح لولا ثقافة التكفير الواسعة التي شاعت منذ ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.