” عند العودة إلى نصوص الكتاب الذي نُشر في الثمانينات، وجدت فيه مع مرور الزمن وثيقة أنثروبولوجية وتاريخية نادرة، تفسر الآليات والمبادئ الأولى لتأسيس نظام الأسد وعمله وأساليب حكمه وتعاملاته مع الرأي العام السوري والعالمي “.
د.برهان غليون: مقدمة كتاب «سورية: الدولة المتوحشة»
قدم لنا «ميشيل سورا» عالم الاجتماع والباحث الميداني بين ثنايا كتابه «سورية: الدولة المتوحشة» المفاتيح الرئيسية التي حكم من خلالها «حافظ الأسد» نظامه. والتي ورثها عنه ابنه بشار الأسد. إذ يجيب لنا عن سؤال في غاية الأهمية: لماذا وصلت سوريا إلى الوضع الذي نعرفه اليوم؟
فقد كان نظام حافظ الأسد على يقين أنه لن يفلح في فرض نفسه على خصومه ومنافسيه وتأسيس سلطة تابعة له إلا ببسط العنف وإنتاجه. ومن ثَمَّ جعله السمة السائدة في سياسة النظام وتفاعلاته مع كل الأطراف الداخلية والخارجية. نجح بالفعل في ذلك وحَافَظ بشار الأسد على مكتسباته مستعينًا بنفس الآليات والطرق الوحشية التي علِمها عن والده.
دفع سورا حياته ثمنًا مقابل إخراج تلك النصوص الموجودة في الكتاب. والذي كشف فيها لنا عن العلة الرئيسية في هذا النظام، وجذور فساده وحالة الخراب الشامل التي قاد المجتمع والدولة السورية إليها. فكان اغتياله في أوج عطائه بمثابة قطع لأبحاث كانت ستترك علامة بارزة كما ترك هذا الكتاب، وحرمانًا للباحثين من فيض أبحاث كان قد أعد لها برنامجًا قبل وفاته.
مستويات التحليل المعتمدة في الكتاب
قام سورا بتحليل الواقع السوري وشرح مفهوم «العصبية» في إطار خمسة مستويات. إذ كان يرى أن العنصر المحرك للنظام السوري – آنذاك – هو الجماعة أو «العصبية» كما يسميها ابن خلدون.
يتمثل المستوى الأول من التحليل في حالة الانشقاق الطائفي التي بدت جلية بين العلويين الذين مثّلوا 10% تقريبًا من تعداد السكان وبين الأكثرية المسلمة السنية؛ وكذلك الانشقاق بين الإخوان المسلمين والعلويين. فبينما كان الإخوان يُحمِّلون العلويين مسؤولية جميع الجرائم التي ارتكبت على يد جميع فرق الشيعة خلال ألف سنة، كان العلويون يقدمون الإخوان على أنهم خونة للأمة وعملاء لإسرائيل.
أما الجيش فكان المستوى الثاني للتحليل، باعتباره مكانًا لتوظيف العصبية، إذ كانت تلك المؤسسة مخترقة بالانشقاق الطائفي، ولم تكن سوى أداة للسيطرة العلوية.
أما المستوى الثالث، فقد لخصه في «المدينة» التي اعتبرها ابن خلدون مركز الإنتاج المادي والفكري والحضاري. إذ تحدث سورا عن أن المدينة كانت واقعة تحت سلطة العصبية في مقابل أمنها. الأمر الذي اعتبره سورا «خطيئة مميتة» ارتكبها النظام السوري «إذ أقام بينه وبين المجتمع السوري جدارًا من المستحيل».
بينما تمثّل المستوى الرابع في «حزب البعث». فلم يكن البعث كمنظمة إلا مجرد واجهة مدنية للنظام الحاكم. لكنه في المقابل فشل كبنية إدارية في التصدي للاحتجاجات الشعبية 1979-1980. كما أثبت فشل النظام السياسي الذي لم يجتذب سوى 4% من الناخبين مثلما حدث في الانتخابات التشريعية عام 1977 و1982.
وأخيرًا «الأمة»، المستوى الخامس والأخير، وهي التي اعتبرها سورا كلمة فاقدة لكل حجة شرعية، إذ كان البعث مجرد غطاء شرعي للسلطة للبقاء في الحكم، وما كان إعلان النظام بأنه الوصي على الحركة القومية والأمة العربية منذ نهاية القرن التاسع عشر إلا محض ادعاءات لا قيمة لها.
الدولة في مقابل المجتمع
تحدث ميشيل سورا عن البعد التاريخي الذي اكتسبته حركة الإخوان المسلمين في الوقت الذي فشل فيه النظام السوري آنذاك في القضاء على هذه الحركة. مشيرًا إلى حالة الصراع الخفي داخل النقابات المهنية واعتراف قادة التشكيلات السياسية في حواراتهم مع سورا بالفضل الكبير للإخوان المسلمين في أنهم أول من كسر جدار الخوف. إذ كان هناك خريطة معارضة جديدة في سوريا ابتداءً من المحامين ووصولاً إلى العمال. ضمت تلك الحركة الشعبية كل قوى المجتمع، إذ كانت أولويتهم المعلنة متمثلة في إقامة جبهة موحدة ضد الدولة في أواخر السبعينيات. بينما فتح الإخوان المسلمون حربًا أيديولوجية على النظام الحاكم من خلال التفتيش في ملفات تُشكك في مصداقية نظام الأسد وتتهمه بالخيانة؛ كملف سقوط الجولان في 1967، التي كانت – في نظرهم – عملية سياسية ممتازة لصالح النظام البعثي، الذي أصبح حاملاً مشعل الثورة العربية.
ولهذا السبب سعت السلطة في مواجهة المجتمع إلى القضاء على حركة الاحتجاجات التي هزت النظام السوري منذ صيف 1979 وحتى ربيع 1980. فحلت النقابات المهنية للأطباء والمهندسين والمحامين. وأصدرت قانونًا يعاقب بالإعدام كل من ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين في 7 يوليو/تموز 1980.
لم يكن الإخوان وحدهم ضحايا للنظام السوري. بل استهدف النظام الأعيان بشكل خاص، وعمل على اغتيال الأطباء والمحامين في بيوتهم. وفي الوقت ذاته، سعى النظام الحاكم في سوريا إلى إقامة محور شيعي في المنطقة من لبنان حتى إيران، لتمكينه من تثبيت وضعه داخليًا أمام المعارضة الإسلامية، وفي الوقت ذاته لإبقاء دول الخليج المنتجة للنفط والممولة لنظامه تحت رحمته. وفي مقابل وحشية الدولة التي احتل فيها العلويون دوائر الدولة والخدمات العامة والنقابات، كان الاندماج بين المجتمع السوري ضعيفًا لا يرقى إلى حد المواجهة مع الدولة السورية آنذاك.
الأصولية الإسلامية في سوريا: البرنامج السياسي
كان ينظر ميشيل سورا إلى الإخوان المسلمين على أنهم حبيسي عقيدتهم التي ترفض فصل الدين عن الدولة، رغم أنهم لم يكونوا مجرد حركة اجتماعية أو تيار عقائدي، بل عملوا كطائفة أكثرية منذ أن تم إبعادهم عن السلطة.
عمل سورا على تلخيص تاريخ العلاقات الصعبة بين الأصولية الإسلامية مع البعثيين، انطلاقًا من ثورة البعث يوم 8 مارس/آذار 1963، وانطلاق الاحتجاجات في مدينة حماة عام 1964 التي قادها الجهاز الديني بأكمله ضد الحزب الحاكم، وصولاً إلى عام 1982 الذي ترك على حد قول سورا «علامة لا تُمحى في ذاكرة الشعب السوري الذي لم يكن يعلم حتى هذا التاريخ أن كل شيء ممكن». وذلك عندما نادت مآذن حماة الأهالي إلى الثورة العامة في فبراير/شباط ووُزع السلاح على أبواب البيوت وبات الإخوان حينها أسياد المدينة.
استعرض سورا برنامج الثورة الإسلامية مستعينًا ببيان الثورة في سوريا [المقصود هو «بيان الثورة الإسلامية ومنهاجها» الذي أصدره الإخوان المسلمون في سوريا عام 1980]. واعتبر أن مقدمته تنطوي على فلسفة اجتماعية «طوباوية» وأنه من المستحيل تطبيق تلك الطوباوية. وقد اقتبس من البرنامج السياسي للإخوان المسلمين بضع فقرات، كانت تنطوي في مجملها على عدة مبادئ دستورية منها: المساواة بين جميع المواطنين وحمايتهم، ونظام الشورى والفصل بين السلطات، كما انطوت على الحريات الأساسية؛ كحرية تأليف الأحزاب السياسية، وحرية التفكير والتعبير والحريات النقابية، وحقوق الأقليات جمعاء، وإلغاء جميع المحاكم الاستثنائية، وحصر حق التقاضي بالقانون العادي.
أما الجانب الاقتصادي في البرنامج، فكان في رأي سورا ضاحدًا لما كان يُروجه نظام الأسد حينها من كون الإخوان عملاء للرجعية والإقطاع والبرجوازية القديمة. إذ كان الجانب الاقتصادي قائمًا على مجموعة من الأسس: كحق التملك والقطاع الخاص وتشجيع الحركة الاقتصادية وإصلاح القطاع العام وتطهيره والمحافظة عليه والعدالة بين المناطق في جباية الضرائب وفي إنفاقها. كما اشتمل على الزكاة والوقف والأعمال المصرفية التي تحارب التضخم.
رغم ذلك، أشار سورا إلى أن الأصولية الإسلامية كانت سيئة السمعة في الغرب، كما أنها مثلت لديهم تاريخ فشل؛ فشل في بناء دولة حديثة في المشرق العربي، وتاريخ لا يزال الغرب متورطًا فيه، وقد ارتبط مصدر السمعة السيئة بالوقت الذي قامت فيه الثورة الإيرانية ومشروعها «المزعوم» «روحانية سياسية».
السكان والدولة والمجتمع
في مقدمة حديث سورا عن السكان، أشار إلى عاملين أساسيين أسهما في جعل المجتمع السوري متجانسًا: اللغة العربية التي اعتبرها «وطنًا لكل من يستخدمها» وعنصرًا للتلاحم الوطني، والإسلام باعتباره دين ما يقرب من 90% من السكان في سوريا.
هيكل السكان في سوريا
قدم سورا عرضًا مطولاً حول أقليات السكان السوريين. بدأ بالعلويين كطائفة تحظى بعناية كل المحللين، معتبرًا إياها عقيدة شديدة التعقيد رغم ارتباطها بجذع الإسلام المشترك. وقام بتناول تاريخهم منذ بداية انهيار الخلافة العباسية وانتشار الدعايا السياسية الشيعية. أما الدروز، فأشار سورا إلى أن أهميتهم ترجع إلى مساهمتهم المؤثرة في تاريخ المنطقة والجبل اللبناني بشكل خاص. إذ تمتعوا بنزعة انفصالية نوعًا ما منذ هزيمتهم السياسية على إثر المجازر المسيحية في الجبل اللبناني في الستينات. من الأقليات أيضًا المسيحيين، إذ كان عمق الشعب المسيحي آنذاك يتشكل من طائفة الروم الأورثوذكس.
بينما اعتبر سورا الأكراد أقلية عرقية وليست طائفية، مثّلت في سوريا آنذاك 7% من مجموع السكان. لكنها في الوقت ذاته كانت تمثل الأمة الأكبر حجمًا في الشرق الأوسط التي لا دولة لها. أشار أيضًا إلى اليهود الذين على الرغم من قلتهم العددية التي لم تتجاوز 4500 شخص في سوريا، إلا أنها كانت تحظى بالاهتمام على ساحة الأحداث الدولية. فضلاً عن الشركسيين المنحدرين من قبائل مسلمة في القوقاز، والإسماعيليين الذين عُرفوا بمجتمع مضغوط متخلف لا مطالب سياسية له سوى العيش في سلام، والإيزيديون الذين لُقبوا آنذاك بعبدة الشيطان.
التناقضات الاجتماعية في المجتمع السوري
نستطيع الحديث نوعًا ما عن شعبين مختلفين يتساكنان داخل الأطر السياسية نفسها، لكن دون اختلاط بينهما.
ج. فولريس
تحدث سورا في سياق كلامه عن السكان السوريين، وعن التناقضات الاجتماعية والتعارض بين المدنيين والريفيين، و«ثأر الأرياف»، الذي حدث منذ أن استولى البعث على السلطة والجيش واقتلع الفلاحين منه. إذ قام الفلاحون بالاستيلاء على المدن لانتزاع امتيازاتها وإنهاء التقليد الخاص بمشاكل الاستغلال، التي لطالما تعرضوا إليها. ومن ثَمَّ برز مصطلح «النزوح الريفي» وما يعنيه من ترييف للمدن باعتباره سمة من السمات الأساسية في سوريا في ذلك الوقت.
التناقض الآخر، كان في مسألة تهميش المرأة، وذلك في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على الرغم من كل الإدعاءات التي كان يروجها النظام حول «الفتوحات الاجتماعية» للمرأة السورية ومشاركتها في الحياة السياسية.
ليس هذا فحسب، فالنظام السوري نفسه كان يحمل آنذاك بين طياته تناقضات، فالدولة لم تكن محايدة اقتصاديًا من حيث الإنتاج وضبط الفائض وتوزيعه، إذ كانت الطبقات المسيطرة اقتصاديًا تعمل انطلاقًا من النخبة السياسية الحاكمة. الأمر الذي أدى إلى استفحال التناقضات الطبقية. كما أن الجهاز البيروقراطي تمحورت فيه طبقة تمارس سطوتها الاقتصادية على قطاعات الزراعة والتجارة والمضاربة العقارية. وبات أصحاب المهن الحرة والحرفية المستفيدين الأكبر من تلك الأوضاع. بينما ظل يعاني كل من الفلاح في الريف والموظف في المدينة من تدني مستواهما المعيشي.
المدينة العربية الشرقية: باب التبانة دراسة ميدانية
أشار سورا في القسم الرابع من كتابه إلى النموذج المثالي للمدينة العربية الشرقية وفق «نموذج فولريس»، إذ تتألف من تجمع سكاني مديني سني في أغلبيته الساحقة مع أقلية مسيحية أرثوذكسية. هذا النموذج المديني ارتبط في الأساس بالإطار الجغرافي والتاريخي الذي تطور فيه. لكن على الرغم من وجود عواصم إقليمية كان لديها القدرة على التأثير في الأحداث، وكانت بمثابة مكان الإنتاج المفضل للحركة الاجتماعية وفق نموذج فولريس. إلا أن دمشق كانت بعيدة كل البعد عن هذا النموذج، إذ إنها في تلك الفترة لم تشترك أبدًا في حركة الاحتجاجات الواسعة التي هزت بقوة قواعد النظام السوري في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات.
قدم سورا في الفصل الأخير من كتابه «حي باب التبانة» دراسة عصبية مدينية، تطبيقًا على ما شرحه. تلك الدراسة كانت ثمرة عمل ميداني متقطع بدأ في صيف عام 1981.
وقد اعتمد في تلك الدراسة على العصبية كمستوى تحليل، إذ كان يرى سورا في حي التبانة في طرابلس «معقل» العصبية، فهذا الحي تميز بكثافة سكانية عالية وكان المزود الأكبر باليد العاملة لمصانع منطقة طرابلس. فقد انبثقت شخصية هذا الحي – في نظره – من أصالة وظيفته المدينية. إذ كان لديه وظيفة اقتصادية متمثلة في كونه سوقًا للجملة لتسويق إنتاج «سهل عكار» الزراعي. كما كان لديه وظيفة سياسية وعسكرية؛ فقد كان العنصر الجوهري للعصبية المدينية في هذا الحي هو الكراهية التي تغذيها العصبية المجاورة.
فحي التبانة حتى اللحظة التي كتب فيها سورا كلماته كان مشتبكًا مع حي «بَعل محسن» في معركة لا نهاية لها من قاذفات الصواريخ ومدافع الميدان. تلك المعركة التي رأي سورا أنها لم تكن لتتطور إلا بإدخالها في اللعبة الإقليمية بل والدولية نتيجة الصراع الحاد الذي اندلع بين النظام السوري وياسر عرفات في ديسمبر/كانون الأول 1983
رابط المقال :