يقدم كتاب غاي بيخور «مدونة السنهوري القانونية» (ترجمة رشا جمال ومراجعة عبد الحسين شعبان ومن إصدار الشبكة العربية للأبحاث والنشر)، صورة مثيرة للاهتمام لعبدالرزاق السنهوري، والد القانون المدني المصري والعديد من القوانين المدنية العربية التي استُمدت من القانون المصري. فمع أن موضوع الكتاب هو السياق التاريخي للسنهوري وعمله، فإنه يقدم لنا كمعاصرين مرآة نرى فيها مشكلاتنا وتحدياتنا الراهنة بعد ما يزيد عن الستين عاماً من صدور القانون المدني المصري والذي بدأ العمل به عام 1949.
اليوم، يمكن رصد مشكلتين أساسيتين مؤرقيتن تتعلقان بالقانون ودوره. تتمحور الأولى حول النزاع الدائم حول الشريعة الإسلامية ومكانها ودورها، فيما تتعلق الثانية بتغول السلطة التنفيذية واستتباعها للسلطتين التشريعية والقضائية، اللتين تحولتا بدورهما إلى مجرد أدوات لخدمة أغراض السلطة التنفيذية.
ينتمي السنهوري إلى النخبة الليبرالية والديموقراطية من القانونيين العرب التي نشأت في العهد الليبرالي وتعلم أبناؤها في الدول الغربية وبخاصة فرنسا. تأسست نظرة هذه النخبة على فصل السلطات وتقوية دور السلطة القضائية وتمكينها من الإشراف على السلطتين الباقيتين وتحقيق التحديث الاجتماعي من خلال القانون ذاته. الميزة التي تمتع بها السنهوري تمثلت بحساسيته المشرقية ورغبته في بعث الشرق وتحقيق نهضته عبر الاعتراف والبناء على تراثه، المتمثل بالشريعة الإسلامية التي رأى فيها السنهوري أحد أهم المصادر القانونية في العالم. لكن هذا لا يعني أن السنهوري كان داعية للأصالة. على العكس، فقد كان منغمساً تماماً في اللغة الحقوقية الحديثة، وما أراده كان نوعاً من التوليف والاستقلال للشرق، وهو ما عبرت عنه رؤيته للشريعة الإسلامية. فقد ميز في نظرته لها بين العبادات، التي عدها أمراً دينياً خارج اعتباره، والمعاملات التي تدخل في باب القانون واعتبرها أحد أهم المصادر القانونية وأحد فروع القانون العالمي المقارن، وهي بهذا تمثل التقليد والخبرة القانونية للشرق، والتي تنصهر فيها كل تقاليد هذا الشرق وتراثاته وأديانه المتنوعة. فالشريعة تقليد قانوني يُستند إليه وليست أمراً دينياً. اعتمد السنهوري في بنائه القانوني على مبدأ التخيُّر في النظر والاستفادة من مصادر قانونية متعددة، فلجأ إلى قوانين أوروبية متعددة كما إلى الشريعة، التي عدها مصدراً في موازاة مصادر قانونية أخرى، حيث السيادة في النهاية للقانون المدني المكتوب. وهو أراد بهذا إخراج الشريعة من حيزها الديني والانتقال بها إلى الإنساني، كتقليد وخبرة شرقية، لتكون أحد المصادر التي يتم الاستعانة بها والاتكاء عليها بجانب غيرها من القوانين كالقانون الروماني.
لم يخل تعامل السنهوري مع الشريعة من شيء من النفعية، فمن أجل النجاح في تمرير عدد من القوانين التي قد تلقى معارضة اجتماعية وبخاصة من النخب التقليدية والدينية، أعطى هذه القوانين رداء إسلامياً. فالشريعة سهلت للسنهوري إدخال العديد من القوانين الأوروبية على اعتبار أنها من الشريعة الإسلامية.
نظرة السنهوري الأساسية للقانون هي اعتباره أداة للتحديث والعلاج للمجتمع المصري وما يعانيه من تخلف وغياب للعدالة. فسعى من خلال التشريع إلى إحداث تغييرات في البيئة الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع المصري عبر تغيير وضعيات اجتماعية وأعراف مقيدة للتطور الاقتصادي، مثل مؤسسة الأوقاف الأهلية التي أصبحت عائقاً أمام التطوير الاقتصادي لموارد البلاد. وعلى هذا حدد السنهوري مجموعة من الأهداف لتحقيقها. تحقيق العدالة بحماية الضعفاء وتمكينهم مما دفعه إلى وضع تقيدات على الملكية الفردية، على عكس القانون الأهلي السابق المعتمد على القانون الفرنسي الذي اعتبر الحقوق الفردية مطلقة لا يمكن حدها. أيضاً أراد أن لا تكون حماية الضعفاء على حساب الأقوياء، فتقيدهم وتشل بالتالي قدرة المجتمع على التطور. ووفق السنهوري، كان واجب القانون المدني حماية الضعفاء والسماح بارتقاء الأقوياء، من خلال تحقيق التضامن الاجتماعي والحفاظ أيضاً على المرونة القانونية لتستطيع اللحاق بالتطورات الاجتماعية وما يستجد فيها.
ظهرت هذه المرونة، المستندة على مبدأ التخيُّر، على مستويين: المستوى التشريعي، من خلال الاستفادة من مصادر مختلفة، قوانين أوروبية والشريعة والعرف، والمستوى الثاني يقوم على الحرية الواسعة التي تُركت للمحكمة والقاضي ليمارسها، فلا يعود مجرد منفذ لما يقرره القانون، بل صار له دور توجيهي وإرشادي في المجتمع ويعتمد على تفسيره واختياراته للسوابق القانونية التي يستند إليها في أحكامه، إن من الشريعة أو العرف أو حتى من مصادر أجنبية، بما لا يتناقض مع القانون المدني الذي هو مصدر الحكم الأخير. لكن يبقى المجال المفتوح للقاضي محكوما بالمبادئ والقيم التوجيهية التي حملها القانون والعدالة والتقدم.
المثير للاهتمام هو المراجعات والمناقشات الموسعة التي حظي بها مشروع القانون في البرلمان المصري بغرفتيه، وهو ما فاجأ السنهوري نفسه. فقد خضع القانون خلال هذه المناقشات إلى العديد من المراجعات والتعديلات وبعض مواده لم تمر، بما يُشير إلى الأهمية التي كانت مولاة للقانون ولحكم القانون. كما أن مرور القانون، ربما، كان تعبيراً عن إدراك النخبة المصرية الحاكمة الحاجة إلى الإصلاح السياسي والاقتصادي، إن هي شاءت البقاء في الحكم وهو ما لم تحققه إذ جاءت حركة 1952 واستولى الجيش على السلطة. فالبرلمان المصري كان محصناً ضد الضغوط الاجتماعية، وهو المشكّل بطريقة شبه حصرية من كبار ملاك الأراضي والبورجوازية، ممن سيتضررون لحد بعيد من القانون.
هنا يظهر أن السنهوري تحرك في اطار نموذج ينظر إلى القانون على أنه وسيلة لانجاز إصلاحات اجتماعية وتحقيق العدالة والتقدم الاجتماعيين، وليس مجرد تكريس السلطة والخضوع لإملاءاتها. وأن المهمة الاجتماعية المنوطة بالقانون لم يكن لها أن تتم من دون أن يكون للمحكمة المرونة والحرية الكافيتان لتفسير القانون وتطبيقه في سياق اجتماعي متغير، مع الخضوع للقيم الأساسية الحاكمة لهذا القانون. في المقابل، لم تكن الشريعة مثار أزمة، كما هو اليوم، في التنازع على المجال السيادي والعام بين الدولة ومناوئيها من الحركات الإسلامية. فالاستقلال المكرس للسلطة القضائية لم يجعل القانون مسألة تنازع رمزي حول السيادة، ولكن أيضاً فتح الباب أمام مقاربة مثيرة للاهتمام بإخراج الشريعة من حصريتها الدينية إلى اعتبارها إرثا شرقيا جامعا للمشرقيين بعموم انتماءاتهم من جهة، وأنسنتها من جهة أخرى باعتبارها أحد المصادر القانونية إلى جانب مصادر أخرى.
وتمثل هاتان المسألتان اليوم التحدي الأساسي للشعوب العربية، فالقانوني صار مجرد منفذ لأوامر السلطة التنفيذية والقانون مجرد أداة في يد الأخيرة لمعاقبة مناوئيها. والشريعة صارت تنازع القانون سلطته ومصدر شقاق للجماعة الوطنية نفسها بعد أن أصبحت هي الدين ذاته.
لم يحصل خلال مناقشات القانون، وكان شارك فيها العديد من الفقهاء والشيوخ، نزاعات حول حاكمية الشريعة أو الخروج عن الدين أو غيره. لا يعني هذا أن النقاشات الشديدة والحامية غابت بل على العكس تماماً، حتى أن السنهوري فشل في تحقيق العديد من أهدافه، ومنها إلغاء المحاكم الشرعية وإخضاع الأحوال الشخصية ذاتها للقانون المدني والمحاكم المدنية. لكن إذا نظرنا اليوم إلى ما قام به والسياق الذي عاشه وجدالاته وخصوماته مع الآخرين، فإننا سنرى أننا خلال هذه السنوات السبعين سرنا إلى الوراء وليس إلى الأمام.
* كاتب سوري
رابط المقال :
http://www.alhayat.com/article/848087/%D8%A8%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%88%D8%AF%D8%A9-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%AA%D8%AC%D8%B1%D8%A8%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%86%D9%87%D9%88%D8%B1%D9%8A-%D9%88%D9%85%D8%B3%D8%A3%D9%84%D8%AA%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B1%D9%8A%D8%B9%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%A7%D9%86%D9%88%D9%86