يعتبر هذا الكتاب حلقة هامة ضمن أعمال مؤلفه د.مسفر بن علي القحطاني، المعروف بإنتاجه العلمي الغزير، ومقاربته لقضايا الفكر والحضارة المعاصرة.
والكتاب هو من إصدار الشبكة العربية للأبحاث والنشر، في طبعته الثانية التي تقع في مائة وستين صفحة.
وفي هذا العمل المتميز يجتهد المؤلف لإعادة تأسيس فقه حضاري شهودي، يحث على السير والنظر في الأرض، ويقوم بواجب التسخير الكوني. لهذا يمثل الكتاب محاولة لتوضيح هذا المقصد، من خلال إلقاء الضوء على معالم هذا الفقه العمراني، من خلال وقود الوعي الدافع للتغيير والعمل، وتحفيز الفقهاء على مزيد من البحث والتأصيل لقضايا هذا الفقه.
ولعل من أهم ما يميز هذا الكتاب قدرته على تمديد مفهوم الوعي الديني وقضاياه على مظاهر متعددة للحياة الإنسانية، تجمع بين الشرعي والاقتصادي والسياسي والقانوني والبيئي؛ بحيث تجد أن مفهوم الوعي الديني يؤطر كل نواحي الحياة العامة والخاصة للفرد المسلم.
كما ينجح المؤلف في إضفاء قدر كبير من الحيوية على أفكاره، من خلال تنويع مباحث وقضايا الكتاب، وأيضًا من خلال تنويع الأمثلة والنماذج التي ترتبط أكثر باليومي المعيش من حياة المسلم. فجاء كتابه سهل اللغة بسيطها، يتوسط بين الكتب المغرقة في التنظير، وتلك المبالغة في الإجرائية دون أفكار كبرى توجهها؛ إنها حالة وسط، أو بالأحرى مشروع فكري وحضاري عملي، ودعوة للاجتهاد وتضافر الجهود؛ لنقل الإبداع الفقهي إلى دائرة الفعل الإنساني والسعي الحضاري؛ لعلنا نفلح في استئناف دورة الحضارة.
الفصل الأول: مقاربات حول مفاهيم الوعي الحضاري
1. حول مفهوم الوعي وآثاره التجديدية
يبدأ المؤلف هذا الفصل بالتأكيد على أهمية تحرير مفهوم “الوعي الديني”، لربط الواقع بالشرع، وتجديد الخطاب الديني.
ثم يعرج لتحديد مفهوم الوعي بين تصوراته في الفكر والفلسفة الغربية، واستعماله القرآني، واستعمالاته في اللغة العربية، ليرسم أهم الملامح الموضحة لمفهوم الوعي:
– اشتراك معنيي الوعي اللغوي والشرعي في تأكيد الجمع والإحاطة بالأمر المراد، ولكن بفهم وصحة إدراك.
– المراد بالوعي الديني في هذا الكتاب، ينطلق “من حالة عليا للفهم والفقه، المتسق مع كليات الشرع وبدهيات العقل وحيثيات الواقع السلوكي للفرد والمجتمع، فهو مرحلة متقدمة من المعرفة العامة، تتجاوز الفهم الشامل للمعنى، إلى تحول الفكرة وانعكاساتها خارج مفهوم العقل، نحو امتثال الفرد لإملاءاتها من دون تردد”.
– برز الحديث عن الوعي الديني في شكله العام في الخطاب التجديدي، الذي حمله عدد من المشاريع الإصلاحية المعاصرة التي شكلت خطاب النهضة، وختامًا بالمحاولات الراهنة (الجابري، وأركون، وطيب تيزيني…) التي سعى الباحثون من خلالها إلى تفسير العلاقة الدينية بالنهضة، وتحليل مفاهيمها وإسقاطها على الواقع المعاصر. وقد جاءت هذه المحاولات أحيانًا برؤى مختلفة ومستوردة.
– ملامح مقاربة اجتهادية لتجديد الوعي الديني، تقوم على “الفهم البياني” الصحيح لدلالة النصوص، و”التأصيل الاستدلالي” المعرِّف بأحكام النوازل الجديدة وَفق قواعد التنزيل المحكم، و”الشهود الاستخلافي” القائم بواجب عمارة الدنيا وَفق مشاريع تحضر واقعية، و”التلازم المقاصدي” بجمع النصوص والفهوم، لتتوافق مع حقائق المقاصد الكلية للشريعة والمستجدات المصلحية.
2. أثر السؤال الفلسفي في صناعة الأفكار
يؤكد المؤلف على أهمية السؤال الفلسفي (ويسميه أيضًا: السؤال المعرفي) في صنع مشاريع التغيير الإنساني، سواء في الزمن الحاضر أو على امتداد التاريخ. وللتأكيد على تلك الأهمية يعود إلى بدايات السؤال الفلسفي مع كل من سقراط وغيره من الفلاسفة.
وهذه الأهمية البالغة للسؤال الفلسفي (المعرفي) هي التي جعلته حاضرًا بقوة في القرآن الكريم؛ حيث يحقق مجموعة من الأغراض على رأسها: أنه أحد أهم وسائل الإثبات والبرهنة العقلية على حقائق الوجود، كما أنه منهج قرآني في الدعوة، وأسلوب أساسي لإثبات النبوة وحوار غير المسلمين، وعمومًا هو منهج أساسي للوصول إلى الحقيقة والاتباع العملي للوحي.
كما يحذر المؤلف من الفهم السطحي لبعض الآيات التي تنهى عن السؤال، مبرِزًا بأمثلة وشواهد أن السؤال المنهي عنه ليس سؤالاً معرفيًّا، بل هو سؤال التكلف والتعنت.
بعد ذلك يؤكد على أهمية المنهجية التساؤلية القرآنية والتي غابت عن كثير من الأمم والحضارات والديانات الأخرى؛ مما دفع كبار الفلاسفة إلى خوض نضال مرير لأجل ترسيخ ثقافة السؤال في حضارتهم.
أما حاضر المسلمين، ففيه غياب واضح لثقافة السؤال، حيث يبدع المؤلف في عرض عميق لبعض أسباب هذا الغياب، ينفتح فيه على أسباب ثقافية ونفسية واجتماعية وسياسية.
ومن أسباب ذلك أيضًا: جفول الوعي الإسلامي التاريخي من الفلسفة، وما أدى إليه ذلك من انحدار في صناعة المفاهيم.
ثم ختم المؤلف بالتأكيد على الحاجة الملحة والراهنة لثقافة السؤال.
3. سؤال النهضة في أدبيات الخطاب الإسلامي المعاصر
يبدأ المؤلف هذا المطلب بالحديث عن أهمية سؤال النهضة في القرن التاسع عشر، مع القيام بجولة تاريخية تشمل أهم المفكرين الذين طرحوا سؤال النهضة، مع استعراض كتبهم ومؤلفاتهم (رفاعة الطهطاوي، خير الدين التونسي، عبد الرحمن الكواكبي، محمد عبده…).
لكن المؤلف يفاجئ القارئ حينما يقول: إن التأريخ العملي يجعل ابن خلدون رائدًا في طرح سؤال النهضة. ثم يعود ليستأنف العرض التاريخي لسؤال النهضة، بالحديث عن أهم خطابات القرن العشرين، وبيان كيف أنها اشتركت في استلهام العودة الدينية ومقاومة التغريب كأساس للتحضر.
لكن سؤال النهضة سيتم اختزاله إلى سؤال الهوية والمحافظة عليها، وإن كان المؤلف يعترف بوجود استثناءات قليلة عند بعض المفكرين.
ويختم المؤلف هذا العنوان بتأمل عميق في واقع وهامشية سؤال النهضة في الخطاب الإسلامي المعاصر، وانعكاس ذلك على مشاريع التجديد والتغيير الراهنة، مبرِزًا نقاط الضعف في هذا الخطاب وأسباب الوقوع فيها.
4. جدلية النص والواقع وأثرها في تكوين العقل الحضاري المعاصر
ناقش المؤلف في هذا المبحث جدلية الواقع المتغير مقابل النص المقدس الثابت، وما نجم عنها من انشقاقات وتباينات في المرجعيات الدينية الغيبية، والتي توجت في الأغلب بالاستجابة القسرية للواقع أو لسلطة النص؛ الأمر الذي مثل له المؤلف بالمسار الديني المسيحي. وهو الأمر الذي لم يسلم منه المحيط الإسلامي، خصوصًا فيما قام به الخوارج وبعض الفرق الباطنية من احتكار شاذ لتأويل القرآن الكريم، بشكل قد يتعارض مع المعنى اللغوي الظاهر أو حتى مع السنة النبوية الشريفة.
غير أن الفقهاء المسلمين حرَصوا على النظر في تأويل النص بما يخدم الواقع، ولا يتعارض مع معنى النص الأصلي أو سياقه القرآني الذي تنَزَّل به، من خلال اجتهاداتهم التي تستجيب لمجتمعاتهم وقضاياها.
ولكن التداخل بين سلطة النص والواقع شجع المؤلف على الخوض في بعض التأملات المقاصدية التي ترسم حدود التباين والتكامل بين النص والواقع، والتي نلخصها في ما يلي:
1. النظر الفقهي للواقع له عدة أحوال، من خلال فهم العادات الاجتماعية والظروف المستحدثة، مع ضرورة فهم الواقع عند الاجتهاد في تأويل النص الظني المحتمل لتعدد الأفهام، أما القطعي فغالبًا ما يأتي على شكل قاعدة صالحة للتطبيق مهما تغيرت الظروف والأحوال. أما تفاصيل الأداء فله متغيراته الخاضعة لظروف الأعيان.
2. التيار النقيض الذي يعطي الأسبقية للواقع على النص، فيدعو لتأويل النص ولو كان قطعيًّا؛ ليتلاءم مع الواقع المتغير، وهو تيار قاده منظِّرون كثر مثَّل الكاتب لهم بكل من: “نصر أبو زيد”، و”حسن حنفي”؛ لكن هذا الطرح يبقى خطيرًا -على أهميته- لأنه يخضع النص لواقع متقلب، ويتماهى مع أهواء الناس، مما يفقد أي نص فاعليته في التكليف.
3. تغير الفتوى المعاصرة بسبب ضغوط المستفتين، أو ضغوط سياسية، أو بحجة مصلحة الحاكم ومتطلبات الطاعة لولاة الأمر، وما ينتج عن ذلك من تبرير للاستبداد، وانتهاك للحريات، والغصب من مقدرات الأمة ومكتسباتها.
وتبقى جدلية النص والواقع مجالاً لإثراء الفقه، وأحيانًا لإقصاء الحق. والحل هو تمكين العدول الراسخين من الفقهاء والمفتين، و”مأسسة” الفتوى الجماعية.
5. اغتيال الوعي والانكسار الطوعي للتخلف
إذا كان الانفتاح على العالم -بفضل وسائل الاتصال- ينجي المجتمعات الإسلامية من الوقوع تحت طائلة الاستبداد الفكري -وهو أخطر أشكال الاستبداد- فإن هذا الانفتاح سيجعل هذه المجتمعات في حيرة شديدة لكثرة الأفكار الواردة وتنوعها، ولتصاعد شدة الاختراق الثقافي لها؛ مما يجدد التأكيد على الحاجة إلى عودة الوعي الديني للصمود، والوعي الحضاري للنهوض، خصوصًا وأن تاريخنا أشبه بالحلقات المترابطة والمتلاحمة بسبب المشترك الديني والثقافي المتجذر في الأعماق، بالإضافة إلى الأسئلة العملية الملحة التي يطرحها الشباب حول مستجدات الواقع وحدود الانفتاح على العصر، وهي أسئلة تقابَل في الغالب بخطاب عاطفي متقادم.
6. المرأة والغياب الاختياري عن مشاريع النهضة
يعتبر هذا المبحث ذا طبيعة تساؤلية قلقة، بخصوص غياب أي مشروع معرفي أصيل تقدمه المرأة للساحة الثقافية طوال تاريخ ثورة الفكر العربي؛ إذ يتساءل الكاتب حول أسباب هذا العجز المحير والغياب الطوعي، اللذين اختزلا جهود المطالبات النسوية بالحقوق في البحث عن فرص العمل والمشاركات السياسية، في حين يدعو الكاتب المرأة إلى الاندماج في المشاريع التنموية وممارسة أدوارهن في البناء، حتى تصبح مفاهيم الحرية والعدالة والمساواة والنهضة والحضارة حقائق حاضرة في أنفسهن ومجتمعهن.
7. التجربة اليابانية ودورها في إعادة تشكيل العقل الحضاري
تعتبر الحضارة اليابانية متفردة في دراسات “الأنثربولوجيا” الحضارية، كما أنها تشكل علامة فارقة في كل الإنجازات المدنية التي توصل إليها البشر المعاصرون؛ وذلك بسبب نجاحها رغم الافتقار إلى مقومات الحضارة المعروفة من الموارد الطبيعية والموقع الجغرافي الإستراتيجي والدين السماوي المحفِّز.
وبالإضافة إلى حضور قيم العمل وأخلاقياته في النهضة اليابانية، من خلال الشعور بالمسئولية الفردية؛ فإن الكاتب يورد ثلاثة عوامل يعتبرها أساسية في هذه النهضة:
العامل الأول: هو احترام القيم -كبديل عن الدين والمعتقد- المتوارثة من فرسان الساموراي التي حددتها تعاليم “البوشيدو”. هذه القيم حافظت على الأمن المجتمعي، ومنحته حماية من الانحراف المادي.
العامل الثاني: هو رُوح الجماعة والفريق الواحد، التي تعظم مصلحة المجتمع على كل المصالح الفردية؛ وهذا الجانب يُعزَّز في الأفراد منذ الصغر.
العامل الثالث: يتلخص في تمتع المجتمع الياباني بالحقوق المدنية، وشعوره بكرامته الإنسانية، وحصوله عليها من غير جحود أو مناكفة من السلطة.
ويبقى الأساس -حسب الكاتب- وهو العناية بالموارد البشرية، أي: جعل الإنسان الياباني هو محور التطور والنهوض.
8. إشكاليات مفهوم الحضارة
يناقش الكاتب إشكالية تعريف الحضارة، مقارنًا بين ابن خلدون، الذي يعتبرها غاية المبالغة في التحضر والترف المؤذن بعدها بالانحطاط، وبين تعاريف الغربيين المعاصرين مثل: ديورانت، تايلور، لامبادر.
ومع انتقال لفظ الحضارة (Civilization) إلى القاموس العربي مع بدايات القرن العشرين حدث اضطراب واضح في المفاهيم؛ بسبب وجود ثلاثة مفاهيم عربية: حضارة، ثقافة، مدنية؛ تقابل مفهومين غربيين فقط: Culture، Civilization.
ويختم الكاتب تعاريف الحضارة بالإشادة بالمفهوم الديناميكي للحضارة عند مالك بن نبي، الذي يجعل حقيقة الحضارة أهم من العمران المادي.
ثم يعرج بعد ذلك على المذهبية الإسلامية التي تفرق بين المدنية والحضارة، من خلال عرض نماذج قرآنية لأمم قطعوا أشواطًا في العمران المادي، لكن فساد نظمهم العمرانية عجل بهلاكهم؛ وذلك مقابل نموذج المدينة المنورة التي في أوضاعها العمرانية المادية لا تتجاوز قرية صغيرة في إحدى بلدان العالم الثالث، لكنها بمقاييس المدنية تمثل قمة التمدن والرقي العلائقي والسلوكي.
ويختم الكاتب بالتأكيد على أن الوعي الحضاري الشامل لحاجات الإنسان والمجتمع هو رهان المستقبل للأمة المسلمة مهما بلغت من ذبول.
الفصل الثاني: لبنات في صناعة التحضر
يعالج المؤلف في هذا الفصل قضيتين اثنتين:
1. فقه العمران وصناعة التحضر الإسلامي
ويبدؤها بالتأكيد على الأهمية البالغة لعلم العمران البشري الذي أسسه ابن خلدون، وأهمله تلاميذه من بعده؛ لينتشر هذا العلم ويشتهر في العصر الحديث، وتتوالى بعده النظريات الغربية وتتتابع؛ إذ يعتبر الكاتب جهود ابن خلدون مؤسِّسة لأعمال “كونت” في الفيزياء الاجتماعية، ولأبحاث “دوركاييم” المؤسِّسة لعلم الاجتماع الحديث، مستشهدًا بشهادة المؤرخ البريطاني “توينبي” في حق ابن خلدون.
والغاية من هذا الحديث عن أهمية علم العمران والاجتماع الإنساني عند ابن خلدون -بحسب المؤلف- هي تحويل المؤثرات والمفاهيم المتداخلة في الاجتماع الإنساني إلى آليات عمل ومشاريع لعمارة الأرض. وذلك بإعادة الربط بين الفقه الحامل للعمل، وبين المفهوم المجتمعي المبيِّن لطرق العمل الصحيح، من خلال إدراك طبيعة التغيير وفهم مجالات الإصلاح المنشود والعمران الحضاري المطلوب وَفق كل الأحوال والظروف التي يعيشها الفرد المسلم في العصر الحاضر.
2. الصناعة الفقهية والتأثير في الحضارة الإنسانية
يبدأ هذا الجزء باستعراض التشابهات الدلالية بين مفهومي الصناعة والفقه، بغرض استلهام مفهوم الصناعة في الفقه، لفتح أبواب من المنتجات التي يدخرها الفقه الإسلامي، الأمر الذي يتطلب فقهاء مهرة يستطيعون تحويل النصوص إلى منتجات تعيد إلى الفقه دوره الحيوي في خدمة الإنسان والرقي به.
وهذا المطلب يجد سنده في العديد من المصنفات الفقهية التي زاوجت بين الاستنباط العقلي وفهم الدلالات اللغوية والتنزيل الواقعي للنصوص. وهو منهج ثوري في الصناعة الفقهية، لجمعه بين المناهج العقلانية والجدلية والإثبات التجريبي على الواقع المتغير.
هذا بالإضافة إلى الدور التفاعلي للفقه الإسلامي مع معطيات الطبيعة، والذي أنتج محاولات رائدة في علوم الجبر والهندسة والطب والفلك وغيرها.
ويختتم الكاتب هذا الفصل بتساؤل حول هذا الانفصام بين علوم العبادة والعمارة، والذي يتجسد في مئات الكليات الشرعية ومئات الآلاف من الفقهاء القابعين خارج الزمن (حسب تعبير الكاتب). ولولا ضرورة البحث في مشكلات الطب والاقتصاد التي فرضت نفسها على الفقهاء المعاصرين، وجعلت قيم الفقه وصلاحيته على المحك؛ لما تحرك الفقهاء، ولما وُلدت المجامع الفقهية.
فالحاجة ملحة للعودة بالفقهاء إلى مراكز البحث، والوقوف صفًا واحدًا في معامل التجريب مع قرنائهم في العلوم الأخرى، من أجل عودة تصحيحية لفقه العمران بعد خروجه من كنف العلوم الإسلامية.
الفصل الثالث: مقاصد التحضر في الشريعة الإسلامية
1. مقصد عمارة الأرض في الشريعة الإسلامية
يبرز الكاتب أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان لغايتين: عبادته سبحانه كما شرع، وعمارة أرضه كما أمر؛ حيث تعتبر عمارة الأرض أو العمران المدني من أهم مقاصد الشريعة الإسلامية. ثم يسوق أدلة مفصلة على ذلك تجمع بين: النصوص الشرعية، والتفاسير، والسيرة النبوية، كما استشهد بأقوال علماء الفقه والأصول وتحليلاتهم، مثل: الإمام ابن عاشور، والشيخ علال الفاسي، والإمام الغزالي، وعبد المجيد النجار.
2. مصالح الخلق في عمارة الأرض
يسوق المؤلف الآيات والأدلة ليبين أن مصالح الخلق لا تجري وَفق قوانين الاستبداد، وعمارة الأرض لا تكون إلا بتحقيق هذه المصالح، وتنقية الأرض من كل صور الظلم. كما أن الشريعة تطلب من الأمة كلها القيام بمصالح الخلق، وتجعله من فروض الكفايات.
وإن مظاهر الفقر والجهل وضعف التنمية وقلة الصادرات مقابل استيراد أكثر الاحتياجات، يبرز مقدار الحرج التكليفي الناتج عن ضعف القيام المدني بهذه التكليفات.
3. تسخير الكون لأجل الإنسان وعمارة أرضه
يناقش الكاتب هنا سؤال التسخير الذي يسمو بالعباد نحو عالم من التكريم والعلو الاستخلافي، ويبصرهم بمهمتهم الكبرى في تحويل الْمُسَخَّرات لتكون عونًا في عمارة الأرض وبنائها وحسن الإقامة فيها.
ثم يحذر الكاتب من إهمال السؤال التسخيري من قبل حركات التجديد أو الإحياء الديني، وما ينتج عن ذلك من ارتكاس دنيوي وأخروي، وترك لشأن الاستخلاف لغير عباد الله؛ مبرزًا بالنص الشرعي المسئولية الشرعية عن ما سخره الله للإنسان ولم يستفد منه هذا الأخير.
4. الشهود الحضاري على الأمم بعمارة الأرض وَفق مراد الله تعالى
يبدأ الكاتب هنا بالحديث عن خيرية الأمة الإسلامية، وارتباط تلك الخيرية بالاعتدال والوسطية، ومحاربة الفساد وسيادة الصلاح من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. غير أن حال الأمة الإسلامية، لا يليق بوصفها الشهودي، الأمر الذي يعد دافعًا مهمًّا لعمران الأرض والتقدم بها بإعادة استدعاء وتمثل ظروف وشروط ميلاد الأمة الأولى، وذلك بإعادة بناء المنطلقات، وتوفير الشروط والظروف الملائمة لتجسيدها في واقع الحال؛ فعالم الأشياء مدين للتزود من عالم الأفكار، وهو بدوره مشروط بقدرته على ترجمة القيم واستحضار المرجعيات وتجسيدها في واقع الناس.
5. رعاية النبي (عليه السلام) وأصحابه للعمران الدنيوي
ينطلق المؤلف من إشكال يوحي بالتناقض، ويتلخص في وجود مجموعة من الشواهد النبوية ومن أفعال الصحابة تدل على عنايتهم بالبناء واهتمامهم بالعمل المدني، مقابل وجود شواهد أخرى عديدة تدعو إلى عدم الركون إلى الدنيا وتدعو إلى الزهد فيها، ويصوغ المؤلف هذا الإشكال على صيغة التساؤل الآتي:
هل العمران مذموم في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي المبيِّنة للقرآن والكاشفة عن أحكامه ومقاصده؟
وبعد نقاش مستفيض، يخلص المؤلف إلى درء التعارض الظاهر، من خلال استنتاج أخير مُفاده أن العمارة الحقيقية تبدأ من فكر الإنسان وتنمية وعيه بقيم الحقوق والواجبات العمرانية، بحيث لو فقدت هذه الأحكام والمبادئ لأصبحت مهمة العمران من مفاسد الأرض وجلب الظلم وانتهاك حقوق الأفراد.
لذا فالحاجة ملحة الآن إلى فقه عمراني يؤصل بواعث العمل نحو التحضر المدني، ويرسخ مفاهيمه الإسلامية، ويقرر تفرد الأمة بمنهج حضاري يقي العالم من إفرازات وسلبيات الحضارة المدنية الراهنة وعولمتها التي اجتاحت العالم بأسره.
الفصل الرابع: منطلقات في بناء الوعي الحضاري
1. خطة العمران الحضاري
يدعو المؤلف في هذا الفصل إلى ضرورة إبراز أهمية الوعي الحضاري وفقه العمران في إحداث التغيير، وترسيخ هذه الجوانب في فكر الأمة، وتشجيع التوجه نحو صياغة الذهنية الإسلامية لتأطير الوعي في كل مناحي الحياة؛ حيث إن نجاح المشاريع، وإن كان يرتبط بحسن التخطيط والإعداد إلا أنه لن يكتمل إلا بوعي المنفِّذين للمشروع بكل تفاصيل المشروع وسياقاته وخططه. وعليه، فإننا نحتاج في إعادة عمران مجتمعاتنا إلى “إعادة تشكيل الذهن، وتعميق التصور، وتنمية الفكر، نحو الرسالة الحضارية للإسلام بكل شمولها للمجالات العبادية والعمرانية، وعمومها للزمان والمكان والأفراد”.
2. نماذج من فقهاء العمران الحضاري
يتجلى دور العلماء في صياغة الأفكار التي تشكل الوعي الحضاري وتقريبها إلى الناس، وذلك على اختلاف تخصصاتهم ومجالات بحثهم.
ويحفل التاريخ الإسلامي بنماذج من العلماء المسلمين الذين جمعوا بين الفقه الذي هو العلم الشرعي المُنزَّل، والفلسفة التي هي علم البرهان العقلي المجرد.
ويستعرض المؤلف نماذج من أولئك العلماء، ويقف بشيء من التفصيل أمام جهود ابن رشد خاصة، مع الإشارة إلى أعمال ابن تيمية وابن حزم والشاطبي وغيرهم.
3. القضاء وإصلاح العمران البشري
تعد وظيفة القضاء من أعظم الرتب في إقامة الدين، كما أن استقلال القضاء والعدل من أهم مقومات التحضر.
ولأن المقاصد هي الحاكمة على سياسة القضاء، كان العلم بها والعمل بها ضامنًا للتطوير وحماية من الانحراف، وخصوصًا عند ضعف العمل القضائي وشيوع الظلم والفساد. لهذا يعرض المؤلف أهم المقاصد التي تصلح ولاية القضاء وترشد العمل، والتي نجملها في: العدل، والعلم، والقوة، والأمانة، واستصلاح المجتمع بحسب حاجاته الراهنة، ثم تطوير أدوات التقاضي تبعًا لإمكانات وخصوصيات العصر.
ويختم المؤلف هذا المبحث بالتأكيد على محورية القضاء في توجيه الدولة المستقبلية، خصوصًا بعد الربيع العربي؛ فإما أن يستثمر النصر ويحفظ حق الشعوب، وإما أن يزيد الوضع رداءةً ويخلط الحق بالباطل.
4. الوعي الوطني وعلاقته بالتحضر الرشيد
يشير المؤلف بداية إلى تقارب مصطلحات الوطن والوطنية والمواطنة، ويتجنب الخوض في تحديد المصطلحات، مكتفيًا بتعريف الوعي الوطني على أنه: “توضيح مفاهيم الانتماء المنتج بين الفرد والدولة”.
وينطلق المؤلف من مثال “احتفالات السعوديين قديمًا بالأيام الوطنية” ليبرز ظاهرتين سلبيتين تُحوِّلان هذه الاحتفالات عن مقاصدها الأصلية:
الظاهرة الأولى: أنه أحيانًا تتخلل الاحتفال بالأيام الوطنية سلوكات وممارسات تخرج بهذه الاحتفالات عن الرُّوح الوطنية، بل وتضر بها وبمصالح الوطن.
الظاهرة الثانية: هي بعض الأخطاء الشرعية في المواطنة، والتي قد تنحرف بها عن الدِّين، مثل الولاء المطلق للوطن وإلغاء الدين، على سبيل المثال.
والمدخل الحقيقي للوعي الوطني يكون من خلال التوازن بين الواجبات والحقوق، وذلك من خلال الارتكاز على المعايير التالية:
– ضرورة ترسيخ الأهداف الكلية في ذهن المواطن، وتنمية وسائل تحقيقها وزرعها في “اللاشعور”؛ لتخرج جميع التصرفات بتلقائية نحو تلك الأهداف.
– تعميق الإحساس برُوح الانتماء إلى الوطن.
– احترام القوانين المنظِّمة للسلوك الاجتماعي للأفراد، خصوصًا أن تلك القوانين تجسد مبادئ المجتمع في الحقوق والواجبات.
– تنازل الفئات العِرقية والطبقات الاجتماعية عن جزء من خصوصياتهم، لتحقيق الاندماج في الإطار الوطني العام.
وعمومًا، يبقى الأهم هو قناعة الفرد بوجوب المبادرة للعمل المنتِج، والانسياب في خطط المجتمع التنموية.
5. أفكار في تغيير القناعات السابقة من أجل مستقبل واعد من المواطنة
تحت هذا العنوان، يستعرض المؤلف بعض الأفكار التي تسهم في تصور أفضل لمفهوم المواطنة:
– المجتمعات التي تحاول تأكيد الخصوصية وتنغلق على نفسها، قد تعجز وتسبب أزمة لأفرادها.
– استلهام العقل في التمييز واتخاذ المواقف، بدلاً من غريزة الانطواء أمام كل جديد.
– قبول الاختلاف وتحويله إلى ائتلاف ورحمة.
– تفعيل دور المؤسسات التربوية والتعليمية والإعلامية في رفع مستوى الوعي لدى الأفراد والمجتمع.
6. الفنون وعلاقتها بالتحضر
يشير المؤلف إلى أهمية المشاعر والوجدان كمكوِّن رئيس للإنسان، مثله مثل الرُّوح والعقل والجسد؛ لهذا حرَص القرآن الكريم على صياغة خطاب خاص للوجدان البشري كما خاطب العقل. في هذا السياق، يؤكد المؤلف أن هناك عبودية صادقة لله عز وجل، تستقر كأحاسيس ملتهبة في النفوس، لا يمكن تحقيقها إلا من خلال الفنون المتنوعة التي تعبر عن الوجدان بمختلف أشكال التعبير (الكلمة الشعرية، أو اللوحة التشكيلية، أو القصة الخيالية، …إلخ).
وبعد هذه المقدمة، يطرح المؤلف العديد من التساؤلات، من بينها:
– ما دام للفنون هذا الأثر البالغ في الحياة، فلماذا ذلك التهميش المتعمَّد لدورها في حركة الإصلاح والتغيير في مجتمعاتنا الإسلامية؟!
– مع أن هناك الكثير من الفنون المباحة، لماذا لم يتم استثمارها في الدعوة والتبليغ، بدل تعطيلها من خلال المبالغة في الاحتياط؟!
كما انتقد الكاتب عزوف الحركات الإسلامية عن استثمار طاقة الشباب في مبادرات فنية هادفة.
وفي المقابل، تساءل المؤلف عن الموقف الشرعي أمام الأدوات الاستعمارية الناعمة، التي تتمثل في الأفلام والبرامج التلفزيونية الغربية، التي سيطرت على وعي الكثير من العوام، كما اخترقت “لاوعي” المثقفين.
في الأخير، يختم المؤلف هذا المبحث بدعوة العلماء والفقهاء إلى التصدي لمهمتين:
الأولى: هي ضرورة البحث عن مبادرات عاجلة وبرامج ناضجة، تقدم كبديل مشروع من خلال الأعمال الفنية الملتزمة، وذلك من خلال مؤسسات مالية تقوم بالإنتاج الفني وتراعي قيم الشريعة، مع الحفاظ على الجودة والمهنية.
الثانية: هي دعوة العقل الفقهي المعاصر إلى تحويل التهافت العالمي نحو الفنون، إلى خيارات محبَّبة لزرع القيم وترسيخ المقاصد الدينية.
7. البيئة وعمارتها في التحضر الإسلامي
يستهل المؤلف هذا المبحث بعرض مستفيض للأخطار البيئية التي تهدد الحياة على كوكب الأرض، ويبين بالشرح المستفيض وبالأرقام والإحصاءات العلمية أن المشكل حقيقي وفادح، ويهدد الوجود الإنساني برمته في السنين المقبلة.
وهنا ينتقل المؤلف لمناقشة المنهج الشرعي للتعامل مع هذه الحالة الجديدة من الاستنزاف المتعمَّد والتدمير الواضح للمشترك الإنساني والعيش الصالح على وجه الأرض؛ فبيَّن أن الشريعة تهدف إلى تأسيس ثقافة بيئية تعصم التصرف الإنساني من الاعتداء على المحيط الطبيعي بالفساد في أي وضع كان فيه، وفي أي مستوى حضاري وصل إليه. لهذا يدعو المؤلف الفقهاء المعاصرين إلى العمل على توضيح معالم هذا المقصد الشرعي الحافظ لبيئة الإنسان من الاختلال.
8. مقاومة الذوبان بالصمود الحضاري
يختم المؤلف الكتاب بهذا العنوان الأخير، والذي يدعو فيه إلى استلهام “فقه العمران” في مواجهة العديد من التحديات المعاصرة التي يواجهها الفرد والمجتمع، من قبيل مقاومة مد العولمة بقيمه التي تغزو المجتمع المسلم، ومواجهة حالة اليأس العام جراء الضعف الحضاري، وترتيب العقل المسلم نحو التكامل والشمولية في المشاريع الإصلاحية.
المصدر :
http://nama-center.com/m/ActivitieDatials.aspx?Id=251