ينتمي نصر أبو زيد إلى “الحداثيين العرب”، وهم مجموعة من المثقفين والمفكرّين ظهروا في النصف الثاني من القرن العشرين، ثمة قواسم مشتركة تجمع بينهم، لكنهم ليسوا كتلة واحدة لها المعالم نفسها، بل لكلّ منهم منطلقاته ووجهته، فالنتائج التي تخرج بها دراسة فكر نصر أبو زيد، قد لا تنطبق على غيره.
حرص مؤلف الكتاب د. مصطفى الحسن في هذا الكتاب على أن يبيّن أفكار المفكر نصر أبو زيد، وأن يعيد ترتيبها ويجمعها خصوصاً في بعض المواضيع، كالنموذج الذي يبنيه لأهل السنة. فهذا الكتاب أشبه ما يكون بـ “القول في القول”، أي أن المؤلف يعيد أفكار أبو زيد ويضم إليها أفكاره هو، وذلك لإثراء الفكرة أولاً وأخيراً.
قُسّم الكتاب إلى ثلاثة فصول، تناول الفصل الأول الحداثة العربية، نشأتها ومفهومها، وفي الفصل الثاني بين رأي نصر أبو زيد في التراث الإسلامي، وتوصيفه لأهل السنة. أما الفصل الثالث، فقد تناول رأي نصر أبو زيد في “النص” ومفهومه، وبيّن موقعه من اللسانيات أيضاً.
والدكتور مصطفى الحسن أكاديمي حاصل على درجة الماجستير في التفسير من الجامعة الأردنية عام 2004، و الدكتوراه في نفس التخصص من الجامعة الأردنية حول التأويل عند محمد أركون ونصر أبوزيد. وهذا الكتاب هو جزء مستل من رسالته للدكتوراه حرص فيه على أن يتوجه به للقارئ العادي بعيدًا عن تعقيدات الأكاديميا. ويظهر في الكتاب تأثّر الدكتور مصطفى الحسن بدراسته الشرعية حيث يحرص على نقل أفكار نصر حامد أبو زيد بدقة ومن ثم مناقشتها في فصول منفصلة بحيث يحقق دقة النقل وأمانته من جانب أخر، ومن الجانب الأخر يفيها بما يتغيّا من نقد.
في الفصل الأول المعنون بالحداثة العربية يتعرّض المؤلف لمفهوم “الحداثة العربية” ، بعد أن يقدم تعريفًا جامعًا للحداثة في تصوره وهو أن الحداثة: وصف زمني للقرون الخمسة الأخيرة في التاريخ الغربي؛ يرفض المؤلف وصف القرنين العربيين الأخيرين بالحداثة العربية ذلك أن الغرب كان يمضي في حداثته واقعيًا على مختلف الأصعدة الاجتماعية والثقافية والدينية والسياسية، فكانت الأفكار تعكس الواقع، بينما الحداثيون العرب لهم منظومة فكرية يحاولون جهدهم تحويلها إلى واقع، لكن ذلك لم يتم لهم، إذن فنحن في الحالة العربية نتحدث عن حداثة نظرية ثقافية، تنظير لواقع غير موجود.
ويلخص المؤلف بعض ملامح الحداثة العربية كالتالي:
*الاعتقاد بمركزية الحضارة الغربية، والقياس عليها، والاحتكام إليها، فالغرب هو الغرب المتفوق في جميع المجالات، خصوصًا الجانب المعرفي.
*قراءة التاريخ والتراث الإسلامي وتحديد مفهوم التقدم والنهضة والتمدن في مرآة المنظومة الغربية، وبناءً عليه فالتاريخ الإسلامي تاريخ مظلم إلا في استثناءات قليلة، وهي لحظات مضيئة موافقة للمنظومة المعرفية الغربية.
*الاعتقاد بأن الغرب أحدث قطيعة معرفية مع ماضيه (العصور الوسطى) وهذا سبب تفوقه، وعلى الشرق أن يفعل مثل ذلك، وأن سبب التفوق الغربي هو البُعد الفلسفي اليوناني، ولذلك لابد من اتخاذها مرجعية معرفية بديلة عن المرجعية الإسلامية.
*الانطلاق من فكرة التنوير، أي تخليص العقل من كل ما يسبب له القصور بما في ذلك الدين والعادات والمجتمع وغيرها.
*إمكانية تكرار التجربة الغربية المعاصرة بحذافيرها.
وبعد أن بيّن المؤلف بعض ملامح الحداثة العربية عرج إلى مسالك النهضوية الإسلامية في القرن التاسع عشر مع الحضارة الغربية الوافدة، وأكد على إصرارهم على الاتصال بالتراث الإسلامي، لأنهم اطلعوا عليه واعتمدوا آليات في القراءة من صلب ثقافتهم وليست أجنبية عنها، وذلك ليقينهم أن الأمة لا تنهض إلا من خلال ثقافتها. بعد هذا التلخيص للمرحلة النهضوية رأى أبوزيد أن دخول العلمانيين في مساحة تأويل النص الديني كانت لمزاحمة النهضويين في ميدان “التجديد الديني” وعدم تركه لهم.
الحداثة العربية في رأي نصر أبوزيد
السؤال السابق أجاب عنه المؤلف من وجهة نظر نصر أبو زيد التي أوردها في مقدمته الطويلة لكتاب: النص والسلطة والحقيقة: إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة. وهي الإجابة التي يمكن تلخيصها في التردّد. ويدلل نصر أبوزيد على صحة رأيه بالعودة إلى لحظة رفاعة الطهطاوي الذي كان سؤاله الحضاري تصالحيًا بين المنظومتين الإسلامية والغربية، لكن سرعان ما أسفر الغرب عن وجهه الاستعماري فبدأت فكرة التعارض في الظهور فبرز المنهج التوفيقي أو التلفيقي على يد جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، لكن تلفيقية عبده كانت تلفيقية مترددة بين الأشعرية التي هي التراث السني السائد حسب أبي زيد، وبين الاعتزالية الرشدية التي هي فكر التنوير الإسلامي. ويتمد التردد إلى تراث طه حسين الذي طبق منهج الشك على الشعر العربي ولم يجرؤ على تطبيقه على النصّ المركزي في الثقافة العربية وهو القرآن. وصولاً إلى انهيار النهضوية العربية التي يحددها أبوزيد في الستينات. فنصر من جهة يرى أنه امتداد لهذه التيارات، ومن جهة أخرى يحاول استكمال عملها التلفيقي كما رأه بعمل أشد جذرية.
نموذج أهل السنة عند نصر أبوزيد
نموذج أهل السنة عند أبي زيد هو صدى لتأثره بالصورة التي أشاعتها العلمانية الغربية عن نفسها، فهو يحاول إيجاد مثيل للتجربة الغربية القروسطية في التجربة الإسلامية. يرى نصر حامد أن ثمة مركز للتراث الإسلامي اعتمد على تحالف سلطتين، الأولى: السلطة المتمثلة في مرجعية النص الديني، والثانية: السلطة السياسية المتمثلة في مرجعية الخليفة. أما الهامش فهو الفكر المعتزلي الذي يحمل راية التنوير والعقلانية الدينية، إلا انه لم يسلم هو الأخر من التواطؤ السياسي كما جرى في محنة خلق القرآن.
بناء على هذا النموذج السابق لأهل السنة يطور أبوزيد متتاليات فكرية عديدة.
*خلق القرآن وأصل اللغة: يعتقد أهل السنة أن القرآن غير مخلوق وبالتالي أن اللغة في أصلها قائمة على التوقيف، بينما يعتقد المعتزلة أن القرىن مخلوق وبالتالي فإن اللغة في اعتقادهم قائمة على الاصطلاح. ويربط نصر هذا تقليديًا بالنزعة الهيومانية الأوروبية.
*المجاز والنزعة الإنسانية: يقيمة نصر أبوزيد متتالية فكرية أخرى مبنية على الخلاف بين العلماء حول قضية المجاز. يرى أبوزيد أن فكر الإمام الغزالي هو المكون الحقيقي للفكر الإسلامي المعاصر. وحسب أبوزيد فقد جعل الغزالي (الحقيقة في عالم الغيب)، وجعل عالم الشهادة سجين المجاز، ويرى أن العلاقة بين العالمين علاقة تعارض، ولا سبيل إلى حل هذا التعارض إلا بتجاوز عالم المجاز إلى عالم الحقيقة.
وينتقد الدكتور مصطفى الحسن هذا التصور الذي أبان عنه نصر أبوزيد لأهل السنة من خلاله رفض المقابلة التي أقامها أبوزيد بين أهل السنة والمعتزلة، اعتمادًا على مقابلة أنطولوجية أولى بين الله عند أهل السنة (الأشاعرة) والإنسان عند المعتزلة. وهي المقابلة التي تخيلها في سياق تصوراته تجاه القرآن والحياة الدنيا. يفترض أبوزيد أن هناك تعارضًا أصليًا بين معرفة الله وتكريم الإنسان. وأن افتراض أهل السنة أن الغاية من القرآن الكريم هي معرفة الله يدل على هامشية الإنسان. ويؤكد الدكتور مصطفى الحسن أن القول بمركزية الخالق هو ما منح الإنسان شرف التكريم. فلولا ورود النص بأن الله تعالى خلق الإنسان ونفخ فيه من روحه وسخر له المخلوقات وجعله مستخلفًا في الأرض لكان فعل الإنسان تجبرًا وطغيانًا دون وازع أو رادع.
ويستغرب الدكتور مصطفى الحسن من قول أبي زيد أن فكر الإمام أبي حامد الغزالي هو المكون الرئيسي للفكر الإسلامي المعاصر، فأي قارئ للفكر الإسلامي المعاصر يعلم يقينًا أن كتابات الغزالي ليست المصدر الأول ولا الثاني للأفكار ، ولا تعد من المصادر الرئيسية عمومًا فضلاً عن أفكار محيي الدين بن عربي.
في الخاتمة أوضح الدكتور مصطفى الحسن أن نصر أبوزيد ينتمي إلى منظومة العلمانيين العرب، رغم عدم قبوله بهذه التسمية، التي انبنت على مفهوم التنوير في القرنين السابع عشر والثامن عشر، والتي تتمركز إجمالاً حول العقل محاولة تخليصه من جميع السلطات دينية أو غير دينية. وهو يحاول دراسة النص الديني وفق المنهجيات البنيوية في تشكلاتها الأولى.
ويتميز نصر أبوزيد، بحسب الدكتور مصطفى الحسن، بقدرته على تلخيص الأفكار، وحسن عرضها، فلغته أنيقة جدًا، وأفكاره سلسة. أما أهم كتبه في رأي المؤلف فهو كتاب: النص والسلطة والحقيقة.