الشر السائل: العيش مع اللابديل
ليس هذا كتابًا في لاهوت الشر ولا في دراسة الشياطين، بل هو كتاب في سوسيولوجيا العمى الأخلاقي، وإن كان يستعين بكل ذلك في رسم معالم هذا العمى. فالشر في الوجدان الإنساني هو عكس الخير، وهو جزء أساس من الخريطة الإدراكية التي ترسم العالم في ثنائيات صلبة متعارضة، مثل النور والظلام، الجمال والقبح، الحق والباطل، الإنسانية والبربرية، الحقيقة والخرافة، العلم والجهل.. وكانت هذه الثنائيات تستمد تماسكها من مركز صلب، إلهي أو بشري، يحدد معالمها وحدودها. ومع اختفاء هذه المراكز الصلبة، تحول الشر من مرحلة الصلابة إلى مرحلة السيولة.
الشر السائل كتاب جديد من كتب باومان حول هذا العصر الذي نعيشه والذي تتسم ظواهره بالسيولة. فباومان ودونسكيس في حوارهما الثري في هذا الكتاب يسهمان في استجلاء وبيان طبيعة هذه السيولة للشر التي قد تصل بالبشرية إلى نقطة الشر المحض الذي يخرج من حيِّز الفعل المُدان إلى منطق النظر إلى الكون والحياة. وفي أثناء الحوار، يُثار التساؤل الآتي: “كيف يمكن اجتناب حرب الجميع ضد الجميع إذا كانت الفضيلة مجرد قناع لحب النفس، وإذا كان لا يمكن الوثوق بأي أحد، وإذا كان المرء لا يستطيع أن يعتمد إلا على نفسه؟ هذا هو أول سؤال للحداثة.. تلك الحضارة الغريبة التي شرعت، لأول مرة في التاريخ، في تأسيس تقدّمها على الارتياب المنهجي والخوف من الموت والاعتقاد بأن الحب والعطاء فعلان مستحيلان، وواقع الأمر أن الاتجاه إلى إخفاء النقمة في صورة نعمة هو السمة الأساسية المميزة لتكنولوجيا غسل الدماغ في الوقت الراهن، تلك التكنولوجيا التي ترتدي عباءة “الاهتمام بالأمن”، مع أنها تُستخدم أساساً لأغراض بعيدة إلى حد ما من اهتمامات السلامة والأمان.
تتميز كتابات باومان الأخيرة بالتكثيف، فلا يغرنك صغر حجمها فكل فقرة تحتمل فكرة أو أكثر، ينتقل بينها باومان بسلاسة اعتمادًا على تشابك موضوعاته وتكرارها، فضلاً عن تأسيساته النظرية المسبقة في أعماله الأساسية.
هذا هو الكتاب السابع وقبل الأخير من سلسلة السيولة التي كتبها الفيلسوف البريطاني بولندي الأصل زيجمونت باومان وتولت الشبكة العربية للأبحاث والنشر في بيروت ترجمتها ونشرها خلال الأعوام الثلاثة الماضية بترجمة ممتازة للدكتور حجاج أبوجبر، وصدرت على أجزاء بدأت بالحداثة السائلة ثم الحياة السائلة مرورًا بالحب السائل والأزمنة السائلة والخوف والسائل والمراقبة السائلة والشر السائل وأخيرًا الثقافة السائلة.
هذا الكتاب هو تطوير لكتاب أسبق منه كان بعنوان العمى الأخلاقي صدر في عام 2013، وكان كتابًا مشتركًا أيضًا بين زيجمونت باومان وليونيداس دونسكيس (1962 – 2016 م)، وهو سياسي، وفيلسوف، وأستاذ جامعي، ومُنظِّر سياسي ليتواني. وكان دونسكيس أيضًا عضوًا في البرلمان الأوروبي (2009–2014).
يمكن النظر إلى الشر على أنه رفيق دائم وأصيل للوضع البشري، ولكن أشكاله وتجلياته، لاسيما في صورها الحالية الخاضعة لحالة السيولة، إنما هي ظواهر جديدة كل الجدة.
يتسائل دونسكيس: ماذا يعني مفهوم الشر السائل؟ كيف يمكن فهمه على أحسن وجه اليوم عندما تتألف ظواهر كثيرة من سمات وخصائص متعارضة؟ فالشر السائل يرتدي ثوب الخير والحب، على العكس مما يمكن أن نسميه “الشر الصلب” القائم على رؤية اجتماعية ترى الأمور من خلال اللونين الأبيض والأسود، حيث يمكننا بسهولة تحديد ماهية الشر في واقعنا الاجتماعي والسياسي. بل إن الشر السائل يستعرض نفسه كأنه تقدم الحياة المحايد والمتجرد من الأهواء، وكأنه السرعة غير المسبوقة للحياة والتغير الاجتماعي بما ينطوي عليه من نسيان وفقدان للذاكرة الأخلاقية. كما أن الشر السائل يرتدي عباءة غياب البدائل وامتناعها. ويصبح المواطن مستهلكًا، ويخفي الحياد القيمي حقيقة الانسحاب.
يسعى الكتاب إذن إلى رسم صورة لأشد مصادر الشر في الوقت الراهن، ويتتبع قدر الاستطاعة مساراته في المرحلة الحالية من مجتمعنا الاستهلاكي الحديث السائل، المتحرر من التنظيم والمفتقر إلى النظام، والخاضع للتشرذم والتفكك والانفصال والنزعة الفردية والخصخصة.
الجدل بين الحرية الفردية وحق المجتمع كان محور الفصل الأول الذي تركز على فظائع القرن العشرين التي ارتكبت في حق الإنسان وأدت إلى اشتداد النزوع نحو الفردية بعد أن ارتُكبت أفظع الجرائم باسم الحقوق المطلقة للدولة/ المجتمع.
يتسائل دونسكيس مرة أخرى: ماذا يعني الشيطان في السياسة؟ هل يُعقل أن ننتقل إلى اللاهوت ودراسة الشياطين ونحن نناقش جوانب بشرية للغاية من الحياة الحديثة؟ إن التاريخ يعلمنا أن هذا معقول؛ فالقرن العشرون يشهد على أن الشيطان في السياسة يعني وصول أشكال من الشر الراديكالي التي تقلل من قيمة الحياة واحترام الذات والكرامة الإنسانية، إنها تمهد الطريق إلى الخوف والكراهية والانتصار على حساب إنسان آخر بتدمير حريته وتحقيقه لذاته.
ويجيب باومان بأنه من المعقول جدًا الانتقال إلى اللاهوت ودراسة الشياطين ونحن نناقش جوانب بشرية للغاية من الحياة الحديثة. ويعرج باومان هنا على فكرة الفيلسوف والمنظّر القانوني الدستوري الألماني الشهير كارل شميت حول اللاهوت المعلمن للسياسة الحديثة. لقد أوضح شميت أن الفكرة الحديثة عن “صاحب السيادة” إنما هي علمنة فكرة الإله. يعلن باومان اتفاقه التام مع هذه الخلاصة الشمتية، ويضيف أن “صاحب السيادة” لاشك يهتدي في أفعاله فقط بعلة وجود الدولة، ولكنه يحق له، كل الحق دون غيره (وكل القدرة دون غيره) أن يقرر مكون علة وجود الدولة تلك وأوامرها، وكيف تدلنا على الطريق، ومن هم أعداؤها. وفي الخلاصة فإن سيادة صاحب السيادة مثل سيادة الإله، أو هي بديلة لها.
وفي ثنايا الحوار بين باومان ودونسكيس يثار التساؤل: “كيف يمكن اجتناب حرب الجميع ضد الجميع إذا كانت الفضيلة مجرد قناع لحب النفس، وإذا كان لا يمكن الوثوق بأي أحد، وإذا كان المرء لا يستطيع أن يعتمد إلا على نفسه؟” هذا هو أول سؤال للحداثة، تلك الحضارة الغريبة التي شرعت، لأول مرة في التاريخ، في تأسيس تقدمها على الارتياب المنهجي والخوف من الموت والاعتقاد بأن الحب والعطاء فعلان مستحيلان، وواقع الأمر أن الاتجاه إلى إخفاء النقمة في صورة نعمة هو السمة الأساسية المميزة لتكنولوجيا غسل الدماغ في الوقت الراهن، تلك التكنولوجيا التي ترتدي عباءة الاهتمام بالأمن، مع أنها تُستخدم أساسًا لأغراض بعيدة إلى حد ما عن اهتمامات السلامة والأمان”.
ويمضي التحليل في أجزاء الكتاب ليبين لنا كيف يسهم الإعلام بشكل محترف في تقسيم صورة الكوكب وتفتيتها إلى عشرات الألاف من الشذرات المنفصلة المبعثرة التي تُعرض بصورة خاطفة يعجز المرء عن استيعابها ناهيك عن هضمها. كما كانت تقطّع الزمن المعيش إلى عدد ضخم من جذاذات منفصلة.
لقد كان غسل الأدمغة بالطريقة التقليدية يستهدف تطهيرها من آثار المعنى والمنطق القديم ليجهزها لبناء معنى ومنطق جديدين، وأما غسل الدماغ في الوقت الحاضر فيبقي الموقع فارغًا وقاحلاً دومًا، فلا يسمح بدخول أي شيء أكثر نظامية من بعثرة عشوائية لخيام يسهل نصبها بقدر ما يسهل خلعها. فلم يعد غسل الدماغ عملية هادفة مرة واحدة وللأبد، بل عملية استمرارية تجعل من استمراريتها هدفها الوحيد.
ويوضح باومان أيضًا كيف أن رأس المال –وليس الآلة فقط- يؤدي دور الإله ويعيد توجيه الطبيعة بسرعته الخاصة ومن منظوره الخاص المتمركز حول الذات، وأنه يخاطر مخاطرة كبيرة بإنسانيتنا لأنه يحول المنظومة الأصلية للطبيعة الكونية، ويعدل من منطق الأشياء والشروط المكانية والزمانية المستمرة لتلاءم مصالحه، أي أن رأس المال يؤسس منطقه الخاص للحياة والعلاقات، فمن ناحية يدمر الموارد الطبيعية، ومن ناحية أخرى يتعامل مع الإنسان في جانب الانتاج كمحض مادة استعمالية يمكن تدويرها أو التخلص منها بشكل ما، أما في جانب الاستهلاك فينظر إليه باعتباره هدفًا لسياسات التسويق. وليس الاقتصاد في هذا السياق إلا دينًا جديدًا يصوغ للناس سبيل العيش ومنهج الحياة، له سلطة على العقول والقلوب ويتحدث بلسان العلم لكنه يحمل من المطلقات ويستبطن رؤية لعلاقة الإنسان بالغيب، والطبيعة هي دين متكامل يوصَف مخالفه بالهرطقة ويتم إخراجه من مجال المعاملات وإدانته.
يتمتع الشر السائل –إذن- مثل كل السوائل، بقدرة رهيبة على الالتفاف على العوائق التي قد تظهر أو تعترض طريقه، فهو مثل كل السوائل، يتسرب إلى هذه العوائق ويرطبها. وغالبًا ما يعمل على تأكلها وإذابتها، ثم يمتص المادة المذابة ليزداد قوة إلى قوته الأصلية. وهذه القدرة إضافة إلى القدرة على المراوغة، تزيد من صعوبة المقاومة الفعالة للشر السائل، فقد توغل الشر في نسيج الحياة اليومية وترسخ في قلبها. وعندما يجري تحديده –إذا جرى تحديده أصلاً- فإنه يجعل كل الصور البديلة غير معقولة، بل وغير حقيقية. فالسم القاتل يصور نفسه بصورة مخادعة على أنه ترياق منقذ للحياة من شقاء الحياة.