السرعة والسياسة: من ثورة الشارع إلى الحق في الدولة
يختصر هذا الكتاب كل فلسفة بول فيريليو المتمحورة حول “ظاهرة” السرعة. لقد اشتهر أمره في الأوساط الفكرية والفلسفية منذ أكثر منذ أربعة عقود بكونه “فيلسوف السرعة”. ولكن فيريلو جاء إلى “فلسفة السرعة” من باب الهندسة المعمارية والتخطيط العمراني، أي من باب الاهتمام بالمجال والفضاء الحضريين. وبالفعل فلما كانت المدينة مجالاً تشقه وسائل نقل واتصال، فإن سرعة تطور هذه الوسائل ما فتئ يغير كل المعطيات والمفاهيم المتعلقة بها، فكلما تزايدت سرعة وسائل النقل والاتصال تقلص المكان والزمان وتغير مفهوم السفر والهجرة وكل ما تعلق بهما، إلا أن أهم مجال تأثر بتطور السرعة هو المجال السياسي، وتحديدًا السلطة السياسية. لقد أضحت السرعة، بارتباطها بوسائل النقل والاتصالات، مولدة للسلطة؛ فعلى مدى التاريخ كان الأسرع هو الأكثر سلطة، وكل من ملك وسائل ومعدات أسرع ازداد نفوذه وازدادت ثروته. وبلغة أوشح، لقد انكشفت السرعة اليوم سلطة وثروة ترتكز عليهما الدول والمجتمعات الحديثة.
هذا التصور الجديد لعلاقة السرعة بالسلطة عمومًا وبالسلطة السياسية تحديدًا استدعى مفاهيم جديدة تكفّل المؤلف بنحتها، أهمها “الدرومولوجيا” (علم السرعة)، و “الدروموقراطية” (سلطة السرعة) و “الاستيطان السائل”؛ كما استدعى تصورًا جديدًا للدولة ووظيفتها، إذ أضحت مركزًا لإدارة المرور. لقد شكَّلت هذه المفاهيم متضامنة ظاهرة الحرب باعتبارها التجلي الأساسي للعلاقة بين السلطة والسرعة والثورة.
لم يتناول فيريلو الحرب من زاوية تاريخية، بل تناولها باعتبارها بعدًا أصليًا من أبعاد المجتمع لم ينفك عن التطور، فإذا كانت الحروب البدائية ركزت على الجانب التكتيكي فإن ظهور المدينة ومعها السلطة السياسية قد نقل الحرب من مرحلة التكتيك إلى مرحلة الاستراتيجيا، أي مرحلة الفكر العسكري والإعداد المسبق للمعارك. ومع التطور المذهل لوسائل النقل والاتصال وظهور الأسلحة الباليستية والسلاح النووي انتهى التفكير الاستراتيجي، إذ لم يعد له فائدة ولا معنى، ودخلنا مرحلة اللوجستيك. كل هذا التحول الضخم حصل بفضل تطور “علم السرعة” وبالنتيجة ازدياد “سلطة السرعة”، لكن نتائجه كانت مدمرة للإنسان وللطبيعة.
لمَّا كانت السياسة مرتبطة بالمجال الترابي، فإن كل الحقوق مرتبطة بامتلاك المكان، فمن يمتلك المكان يمتلك الحقوق، ومن لا مكان له لا حقوق له. من يمتلك الشارع يمتلك السلطة، فهو الموضع الأول الذي تنغرس فيه “شجرة الحكم” لذلك كان على الدوام ميدان المعركة الأول بين الساعين إلى السلطة والمتمسكين بها. بعد الشارع يأتي الطريق، ثم البر فالبحر فالجو.. فكلما ازدادت سرعة وسائل النقل والاتصالات ازداد حجم المكان وتضخمت الحقوق. وهكذا انتقل الأوروبيون من الحق في الشارع إلى الحق في الطريق إلى الحق في الفضاء الأرضي إلى الحق في البحر إلى الحق في الفضاء الجوي؛ فاختراع أسطول الردع على سبيل المثال مكّن الإنجليز من السيطرة على البحار وجعلهم سادة العالم في القرن التاسع عشر، كما أن اختراع الأسلحة الباليستية والطائرات المقنبلة الاستراتيجية مكّن الأمريكان والروس من السيطرة على الفضاء الجوي ومن ثم تقاسموا العالم في القرن العشرين.. ولكن كل هذه الحقوق أفضت في النهاية إلى “الحق في الجريمة”.
إن الانتقال من مرحلة الاستراتيجيا إلى مرحلة اللوجستيك كان انتقالاً كارثيًا. في حروب الإنسانية الأولى، وقبل تزايد السرعة، كان المكان/الميدان سيِّد الموقف؛ إذ كان يمكن اتقاء الرمح أو النبل أو رمية المنجنيق بالدرع وبالخندق والسور، فسرعة هذه المقذوفات كان مقدورًا عليها؛ ولكن الأمر اختلف فيما بعد نظرًا لتزايد سرعة المقذوفات مع اختراع الغربيين أسلحة جديدة تضاهي سرعتها سرعة الصوت أو تخترق جدار الصوت، بل وتقترب من سرعة الضوء. وبذلك تمت إبادة المكان نهائيًا، فلم تعد الحرب ولا الردع مرتبطين بتطوير الاستراتيجيات الحربية، بل بتطوير الأسلحة وتجويدها وبتطوير بنية اجتماعية مناسبة. في ظل هذا الوضع أضحى الاقتصاد الغربي “اقتصاد حرب”، وأضحى المجتمع الغربي مجتمعًا “دروموقراطيًا”. وبالفعل تنامى الاقتصاد العسكري على حساب الاقتصاد المدني، ولا أدل على ذلك من استحواذ السلطات العسكرية في أوروبا على الشأن المدني، فأغلب المشاريع الاقتصادية الكبرى تكفلت بها الجيوش، ولا غرابة في ذلك فالمؤلف لا يرى في تاريخ الغرب سوى تاريخ تطور المؤسسة العسكرية، فكل ما حصل في أوروبا على مدى التاريخ إنما كان بتدبير الجيوش، بما في ذلك الثورات، وخصوصًا ثورة 1789. والنتيجة الأبرز في هذا المجال هي “نهاية البروليتاريا”؛ فلم يعرف الغرب، كما يزعم الماركسيون، بروليتاريا بالمعنى العلمي للكلمة، وإنما عرف بروليتاريا صناعية كانت تنتج ما يحتاجه اقتصاد الحرب، وبروليتاريا عسكرية توظَّف في القتل والتدمير. أما بخصوص المجتمع، المجتمع الحضري بالطبع، فالأمر أشد وأفظع:
-لقد أدى تطور السرعة إلى إلغاء مفهوم المكان (وما يتعلق به من سفر وهجرة وتجوال وتعارف)، وبذلك انسلبت الأرض وضاعت من تحت أقدام الغربيين، ولم يعد للمسكن وللسكن والاستقرار من معنى. فإذا كانت المجتمعات الحضرية القديمة مجتمعات مستقرة، فإن التطور التقني المذهل، خصوصًا في مجال وسائل النقل والاتصال، قد جعل سكان المدن بمثابة “بدو مستقرين” و “حضر ظاعنين”؛ فالهواتف والحواسيب المحمولة والكاميرات وغيرها تجعل قسمًا من سكان المدن لا يحتاجون لمقر ثابت، فهم يجدون في المطارات ومحطات القطار ومفترقات الطرق ومدارج العمارات.. إلخ “مستقرات متنقلة؛ وأما المقيمون في مبيتات المصانع ومراكز الإيقاف وأحياء الصفيح فهم بمثابة حضر متنقلين، هذه الحالة سمَّاها المؤلف “الاستيطان السائل”.
-أضحت السرعة في هذه المجتمعات وسيلة ترقٍ اجتماعي؛ فكلما كانت المكانة الاجتماعية في المجتمعات الغربية منذ العصر الإغريقي مرتبطة بنوعية وسائل النقل والاتصال التي يمتلكها كل فرد أو مجموعة أو طبقة، فالأسرع هو الأرقى في السلم الاجتماعي. ويتساءل المؤلف مستنكرًا: ماذا يبقى للغربي اليوم لو سحبنا منه دراجته أو سيارته أو هاتفه أو حاسوبه؟ قطعًا.. لاشيء. هذه العلاقة بين السرعة والثروة والمكانة الاجتماعية سماها المؤلف: “سلطة السرعة”
-تمكّن السرعة من هذه المجتمعات استغلته السلطة السياسية على أحسن وجه لتوطيد سلطتها. وفي هذا السياق وظفت القدرات الحركية لأفراد المجتمع بحسب ما اقتضته الظروف، فلكي تتخلص الثورة الفرنسية من “مواطنيها” وجهتهم تحو الطريق، مقترحة عليهم نشر أفكار الثورة في العالم في الوقت الذي كان فيه زعماء الثورة يمتلكون العقارات بما تعنيه من استقرار، والسياسة نفسها اعتمدتها السلطات النازية عندما صنعت سيارة “الفولكس فاغن”، إذ وهبت الطريق للجميع حتى تتجنب تملكهم الشارع. وفي الحالة العكسية – أي عندما احتاجت تلك السلطات إلى تلك القدرات الحركية – وظفتها كما ينبغي، إذ لم تكتفِ بتوظيف البروليتاريا في المركبات الصناعية العسكرية وفي الحروب، بل تعدت ذلك إلى تأهيل الأجساد المعطوبة عن طريق تطوير فن جراحة العظام، وفن الجراحة الترقيعية والآلات المساعدة وصناعة الروبوتات، إلى درجة أنه شاع ولع كبير داخل هذه المجتمعات بالأجساد البيو – تقنية على الرغم مما تنطوي عليه من تدمير للطبيعة والإنسان.
هكذا كانت الحرب التجلي الأبرز لعلم السرعة ولسلطة السرعة. وهذه الصورة خاصية غربية بامتياز، فلم يعرف الغرب ثورة صناعية كما هو شائع بل ثورة درومولجية، ولم يعرف الغرب الديمقراطية (سلطة الشعب) بل الدروموقراطية (سلطة السرعة). وإذا كان أرسطو قد قال إن السياسة هي محرك التاريخ، وأضاف ماركس إلى ذلك صراع الطبقات فإن الخلاصة التي ينتهي إليها فيريليو تجعل من الحرب المحرك الفعلي للتاريخ.
ولم تكن النتائج الكارثية لتنامي السرعة مقتصرة على مهدها الغربي، بل شملت كل المعمورة، إذ لم تكتفِ هذه “الكارثة” بالقضاء على التنوع البشري فاختزلت البشرية في أمتين اثنتين وحسب: أمة التفاؤل والقوة والسلطة (الغرب) وأمة الإحباط (بقية العالم)، بل تعدت ذلك إلى تفريخ أصناف لا تعد ولا تُحصى من المهمشين والمقصيين والمنفيين بحكم عدم قدرتهم على امتلاك المكان، فمع تطور وسائل النقل اقتصر الحق في الفضاء على حقوق جزئية غير متعينة وغير ثابتة، كالحق في الممرات المائية والجوية، والحق في مدارات الأقمار الصناعية، فلم يعد للإنسان سكن يملكه، بل مسلك وحسب، لقد أضحى بدويًا أو متبديًا لا يملك حركة ولكن مجرد سرعة، فليس له مجرد مكان.
ولتجاوز الآثار السلبية لتنامي “كارثة السرعة” يقترح فيريليو اقتصادًا سياسيًا للسرعة، وبالخصوص “علم بيئة الوقت”. والحل يبدأ في التصالح بين الفلسفة والعلم بكل فروعه، وخاصة العلوم الإنسانية؛ فقد بدأت مشكلة السرعة في رأيه عندما انعدم التفاهم بين أينشتاين وبرغسون، فالأول كان يتحدث عن “السريع” وعن الخلاء الفيزيائي، في حين كان الثاني يتحدث عن الكائن الحي وعن سرعة الكائن الحي.