الخبرة الإيرانية: الانتقال من الثورة إلى الدولة
شغلت الثورة الإيرانية منذ اندلاعها في أواخر سبعينات القرن العشرين وحتى الآن اهتمام العديد من الدوائر الأكاديمية والسياسية والإعلامية. فقد شكلت الثورة كنموذج جديد في السياسة والأيديولوجيا للبعض تحديّاً على كل من المستوى السياسي والأيديولوجي، وشكّللت للبعض الآخر نموذجاً وقدوة تحتذى. ومن ناحية أخرى، شكّل النظام السياسي الإيراني الذيي تشكلت لبناته الأولى منذ اليوم الأول لنجاح الثورة مادة خصبة لدراسات العلوم السياسية سواءاً في مجال نظم الحكم أم العلاقات الخارجية. فقد انطرح النظام السياسي الإياني خبرة جديدة للعلاقة بين الديني والسياسي في وقت استقر فيه على الفصل بينهما انطلاقاً من أن هذا الفصل يسمح بنمو وتطور أفضل لكليهما بعيداً عن الآخر. وجاء النظام الإيراني ليرسم شكلاً جديداً لنظام سياسي يضع فيه الديني في قلب النظام، والفقيه على رأسه، ويرسم شكلاً متمايزاً للعلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وكذلك الخارجية للمجتمع الإيراني. فقد اتخذت السياسات الخارجية للنظام الجديد منحىً مختلفاً عن سياسات نظام الشاه؛ فبعد علاقات متميزة واستراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية والقوى التقليدية في المنطقة العربية جاء النظام الجديد حاملاً معه خطاباً راديكالياً هاجم فيه قوى الاستكبار على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، وتعهد -لفظياً- بالدفاع والتحالف مع قوى المستضعفين في الأرض. والدكتورة أمل حمادة مؤلفة هذا الكتاب هي مدرس العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية – جامعة القاهرة، وهذا الكتاب هو أطروحتها للدكتوراه.
أسئلة الدراسة
تشير دراسة الثورات الكبرى إلى وجود مراحل من التحول والانتقال يعقبها نوع من الاستقرار على مستوى الأدوات والآليات في شكل معين. وتطرح هذه الدراسة أسئلة حول مدى اتفاق أو اختلاف خبرة الثورة الإيرانية مع هذه الخبرات وما تقدمه من جديد في إطارها. ومن ثم تطرح الدراسة أسئلة مهمة حول ماهية انتقال الشعب الإيراني من الثورة إلى الدولة، وهل يتم هذا التحول بالفعل أم أن المجتمع الإيراني يتحرك بين متوازيين يمثل أحدهما الثورة ويمثل الأخر الدولة ويتقاطعان أحيانًا ويفترقان أحيانًا أخرى؟
الإطار النظري للدراسة
تهتم هذه الدراسة برصد وتحليل المجتمع الانتقالي في الخبرة السياسية الإيرانية بهدف دراسة الانتقال من الثورة إلى الدولة، وذلك على مستويات ثلاثة:
- التغير في القواعد القانونية التي تحكم حركة النظام.
- التغير في المؤسسات.
- التغير في شبكة العلاقات التي تربط بين القوى السياسية المختلفة والمؤسسات المرتبطة بها.
هذا الاهتمام بالتغير والانتقال من الثورة إلى الدولة يستدعي بالطبع إطارًا نظريًا يحكم دراسة هذه العملية. ومن ثم فإن المؤلفة تبدي اهتمامًا ملحوظًا بالأدبيات المختلفة لدراسة الثورة والدولة، بالإضافة إلى المرحلة الانتقالية بينهما. وكذلك تركز في الفكر السياسي الإيراني حول ظاهرتي الثورة والدولة انطلاقًا من الدور الذي قام به هذا الفكر في الخبرة الإيرانية في الانتقال من الثورة إلى الدولة.
تقسيم الدراسة
وتنقسم هذه الدراسة إلى أربعة فصول تسبقها مقدمة وتعقبها خاتمة.
يتناول الفصل الأول مناقشة الإطار النظري من خلال التركيز على الأدبيات التي تناولت بالدراسة الثورة والدولة والمرحلة الانتقالية. ويناقش القسم الأول الاقترابات المختلفة التي تم من خلالها العرض لدراسة الثورة والمفاهيم الفرعية المرتبطة بها كالأيديولوجيا والجماعة الثورية. أما الثاني فيركز على مفهوم المجتمع الانتقالي أو المرحلة الانتقالية التي تفصل بين لحظة قيام الثورة واستعادة النظام السياسي لمظاهر الاستقرار السياسي المرتبط بالدولة. وفي إطار المرحلة الانتقالية ستناقش المؤلفة الخصائص الرئيسة لها من سيولة التحالفات والتنظيمات السياسية، وازدواجية المؤسسات السياسية، بالإضافة إلى مهام بناء ونقل المؤسسات في تلك المجتمعات. ويتعرض القسم الثالث لمناقشة الدولة بالنظر إليها على أنها مرحلة في التطور التاريخي للمجتمعات واستئنافًا للمرحلة التي سبقت الثورة في المجتمع الإيراني.
وتناقش المؤلفة في القسم الأول من الفصل الثاني عوامل قيام الثورة الإيرانية، فيقسّمها إلى عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية. ويصل إلى أن العوامل الثقافية كانت لها الثقل الأكبر في قيام الثورة، ولذلك يركز القسمان الثاني والثالث من هذا الفصل على الجهود الفكرية التي قدمها عدد من المفكرين الإيرانيين في الإعداد للثورة أو لشكل الدولة التي تلت عملية تغيير نظام الشاه، فيركز القسم الثاني على مفكري الثورة، وفيه مناقشة أفكار آية الله الخميني، وآية الله طالقاني، وعلي شريعتي، ونواب صفوي. أما القسم الثالث فتسلط المؤلفة فيه الضوء على مفكّري الدولة بالتركيز على أفكار الرئيس خاتمي وعبد الكريم سروش.
أما الفصل الثالث فيبحث من خلال قسمين رئيسين الإطار الدستوري والمؤسساتي للنظام الجديد. ويركز القسم الأول منهما على عملية وضع الدستور في عام 1979 والظروف السياسية التي صاحبت وضعه، بالإضافة إلى مناقشة التعديلات الدستورية التي أقرت في عام 1989 والتغييرات التي نتجت عن هذه التعديلات. أما القسم الثاني فتناقش فيه المؤلفة عملية بناء المؤسسات في الجمهورية الإسلامية الإيرانية على اعتبار أنها من المؤشرات التي تدل على استقرار التحول إلى الدولة. في هذا الإطار تقسم المؤلفة هذه المؤسسات إلى مؤسسات استحدثتها الثورة كترجمة لبرنامجها الأيديولوجي ومؤسسات موروثة من نظام الشاه أُدخل عليها عدد من التعديلات سواء على الاسم أو آليات العمل أو الوظائف المنوطة بها.
أما الفصل الرابع فترصد فيه المؤلفة الانتقال إلى الدولة من خلال التفاعل بين مؤسسات الثورة ومؤسسات الدولة. وتُحدِّد المؤلفة أقسامًا ثلاثة لرصد هذا التطور.
يرصد القسم الأول التطور الذي طال عددًا من مؤسسات الثورة على رأسها الحرث الثوري ومجلس الرقابة على القوانين الذي عُرف في بعض الأحيان بمجلس صيانة الدستور. أما القسم الثاني فيركز على التطور الذي طال البرلمان والرئاسة من خلال مناقشة الانتخابات البرلمانية والرئاسية على اعتبار دلالتها بالنسبة إلى شكل النخبة الحاكمة وآليات الدوران فيها. ويركز القسم الأخير على تطور ولاية الفقيه على المستويين الفكري والسياسي. وتعتبر ولاية الفقيه من أهم المؤسسات في الدلالة على جدلية العلاقة بين الثورة والدولة في إيران. فمنصب الولي الفقيه والسلطات المنوطة به تعتبر الترجمة الحقيقية لفكرة الثورة ودور العلماء فيها كما ارتأها الإمام الخميني، وهي بهذا المنطق مؤسسة ثورة. ولكن في الوقت نفسه، فقد حرص الإمام الخميني، ونجح النظام الإيراني في وضع مجموعة من القواعد الدستورية والقانونية التي قننت وضع الفقيه بشكل يتجاوز شخص الإمام الخميني، ويؤسس للمنصب بشكل مستقر ومستمر، وبهذا فهي تنتمي إلى الدولة. وانطلاقًا من ذلك يدرس هذا القسم تطور العلاقة بين المرشد خامنئي وكل من الرئيس رفسنجاني والرئيس خاتمي لاسكتشاف مدى التطور والاستقرار في التحول من الثورة إلى الدولة.
أما خاتمة هذه الدراسة فتركز على مناقشة التحول من الثورة إلى الدولة من خلال إعادة قراءة الأسئلة الرئيسة للدراسة، بالإضافة إلى الخبرة التي تقدمها إيران بشكل خاص في إطار هذا الانتقال.