الحلولية ووحدة الوجود
في استهلالها لكتاب الحلولية ووحدة الوجود للمفكر المصري الراحل عبد الوهاب المسيري الصادر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر ، تؤكد الدكتورة هبة رءوف عزت على أن هذا الكتاب يمكن اعتباره إضافة جديدة إلى الخيط الناظم في فكر المسيري وهو السعي لبناء رؤية إنسانية عالمية من منظور عقيدة التوحيد كإطار معرفي يدور حول مكانة الإنسان في العالم، حتى وإن لم يستخدم المسيري المفاهيم المألوفة، او يفرط في الاستشهاد بالآيات والأحاديث، والإحالة على أقوال الفقهاء. فقد نفذ المسيري إلى قلب المنظومة المعرفية، والمقاصدية للإسلام من خلال مقارنة الأنساق الأيديولوجية والفلسفية والمعرفية، وفهم أن المقصد الأعلى هو تأكيد إنسانية الإنسان وحدودها وأفقها، والتي يعلوها تنزيه الله الذي “ليس كمثله شيء”، فعمل على تطوير الخطاب العربي بشأن التمييز بين الرباني والغيبي والطبيعي والإنساني، وتركيب المزازين التي تحكم العلاقة الحية بينها، وإدراك الحكمة من إظهار الفوارق وبيانها، والتي حاولت المنظومات الحلولية اختزالها في مركزية الإنسان ومساواته بالإله أو تكريس هيمنته على الطبيعة، وأحيانًا إقصاء سؤال الألوهية والروبية من النقاش رغم حضوره في التصور – منفيًا أو معكوسًا، ظاهرًا أو خفيًا.
معنى الحلولية الكمونية
على غير العادة يقدم الدكتور المسيري في بداية الكتاب مسردًا بأهم المصطلحات التي تقع في المجال التداولي لمفهوم الحلولية، وهو الذي اعتاد قرائه أن يجدوا هذا المسرد عادة في نهاية كتبه معرِّفًا بأهم المصطلحات التي نحتها أو عدَّل في دلالتها لتصبح أكثر تفسيرية وتعبيرًا عما يريد.
يعرِّف المسيري الحلولية الكمونية بأنها المذهب القائل بأن الإله والعالم (الإنسان والطبيعة)، وهما العنصران اللذان تدور حولهما معظم رؤى العالم، مكون من جوهر واحد، ومن ثم فهو عالم متماسك بشكل عضوي مصمت، لا تتخلله أية ثغرات، ولا يعرف الانقطاع، ويتسم بالواحدية الصارمة، ويمكن رد كل الظواهر فيه، مهما بلغ تنوعها وانعدام تجانسها، إلى مبدأ واحد كامن في العالم هو مصدر وحدة الكون وتماسكه ومصدر حياته وحيويته، وهو القوة الدافعة له الكامنة فيه، ويمكن تفسير كل شيء من خلاله. ولا يفرِّق المسيري بين نوعي وحدة الوجود الروحية والمادية إذ قد تختلفان في بعض الأوجه الفرعية إلا أنهما متفقتان في الأساس والبنية؛ فكلتاهما تريان العلم مكونًا من جوهر واحد. هذا الجوهر أو المبدأ الواحد يسمى”الإله” أو “الجوهر الإلهي” في منظومات وحدة الوجود الروحية، ويمكن تسمية الجوهر الواحد تسميات شبه روحية شبه مادية، كأن يُقال إن المبدأ الواحد هو “روح الشعب”، أو “روح التاريخ”، أو “العقل المطلق” وما شابه ذلك من مصطلحات هيجلية؛ روحية اسمًا، مادية فعلاً.
أما في منظومات وحدة الوجود المادية فإن هذا المبدأ (أو الجوهر) يسمى “قانون الحركة”، أو “قوانين الطبيعة” أو “الطبيعة/ المادة”، أو “قوانين الأشياء”، أو “القانون الطبيعي”، أو “قوانين الضرورة الطبيعية”، أو “القوانين العلمية”.
وعلى هامش هذا التعريف للحلولية الكمونية بوجهيها الروحي والمادي يقدم المسيري مسردًا لأهم المفاهيم المتعلقة بها وهي: (الحلولية – وحدة الوجود – الكمون – الباطن – الباطنية – المحايثة – الاتحاد – الفناء – الفيضية – التجسّد – النفسانية الشاملة – التأيقن – المبدأ الحيوي – اللوجوس)
التوحيد والحلولية
يرى المسيري أن ثمة تضادًا بين التوحيد والحلولية الكمونية؛ فالتوحيد هو الإيمان بإله واحد، قادر فاعل عادل، قائم بذاته، واجب الوجود، منزّه عن الطبيعة والتاريخ والإنسان، بائن عن خلقه، مغاير للحوادث؛ فهو مركز الكون، المفارق له الذي يمنحه التماسك، ويمنح الإنسان الاستقلال عن سائر الموجودات، والمقدرة على الاختيار، وعلى تجاوز عالم المادية وذاته الطبيعية المادية. أما الحلولية الكمونية، فهي الإيمان بإله حالٍّ كامن في الطبيعة والإنسان والتاريخ، أن إن مركز الكون كامن فيه. وبهذا فإن التوحيد هو عكس الحلولية الكمونية.
ويرى المسيري أنه يمكن قراءة تاريخ الفلسفة الغربية بوصفه تاريخ صراع بين رؤية إيمانية تؤمن بتجاوز الإله والإنسان لعالم الطبيعة من جهة، ورؤية حلولية كمونية (أساسًا مادية)، من جهة أخرى، ترى أن الإله كامن في الطبيعة (أي الطبيعة/ المادة)، وأن الإنسان جزء لا يتجزأ منها، ومن ثم فهو إنسان طبيعي/مادي غير قادر على تجاوزها. وفي داخل الرؤية الحلولية الكومنية ذاتها ينسب صراع بين التمركز حول الذات (وإنكار الكون وتأليه الإنسان)، والتمركز حول الموضوع (وتأليه الكون وإنكار الإنسان) في مرحلة الحلولية الصلبة، ويحسم الصراع لصالح التمركز حول الموضوع وتأليه الكون، وتظهر مرحلة الحلولية السائلة؛ فتسيطر الواحدية المادية تمامًا، وتنكر أي شكل من أشكال التجاوز أو الثنائية أو المرجعية، ويتحلى المركز من خلال الأشياء، ويصبح العالم بلا مركز ولا مرجعية.
وحدة الوجود الروحية ووحدة الوجود المادية
يرى المسيري أن وحدة الوجود الروحية هي ذاتها وحدة الوجود المادية، وأن الفارق الوحيد بينهما هو الفرق في تسمية ذلك المبدأ الواحد الكامن في المادة، الدافع لها؛ فهو “الإله” في وحدة الوجود الروحية، وهو “المادة” في وحدة الوجود المادية. ويتشابه الوجهين في كونهما أنساقًا مغلقة لا تتخللها ثغرات أو مسافات أو أي شكل من أشكال الانقطاع، فهي امتداد كامل، ووحدة (آلية أو عضوية) مغلقة مصمتة، وانتصار كامل للواحدية التي ترد الأشياء كافة، معرفيًا وأخلاقيًا، إلى مستوى واحد أو مبدأ واحد كامن في الأشياء، فكلاهما يرفض المرجعية المتجاوزة ويؤكد المرجعية الكامنة في العالم.
ويفرّق المسيري بين وحدة الوجود الجزئية ووحدة الوجود الكلية، فوحدة الوجود الجزئية تنجم عن تجسد المبدأ الواحد في شعب أو أرض أو شخص بعينه. وفي هذه الحالة فإن موضع الحلول هذا يصبح موضع القداسة، ويستبعد بقية الموجودات. أما وحدة الوجود الكونية فتظهر حينما يتسع نطاق وحدة الوجود ويحل المبدأ الواحد في كل الموجودات.
الخطاب الحلولي الكموني والعلمانية الشاملة
يربط المسيري بين الحلولية الكمونية في وجهيها الروحي والمادي وبين خطاب العلمانية الشاملة، ويقدم نماذج دالة على ذلك الخطاب أبرزها الصيغة الهيجلية في الحديث عن اتحاد المقدس بالزمني، والفكرة بالطبيعة، والإله بالتاريخ.. إلخ حيث هي من أكثر الصيغ تركيبًا، وأكثرها شيوعًا للتعبير عن الحلولية الكمونية والواحدية المادية/ الروحية.
لكن الخطاب العلماني لا يعبر عن العلمانية الشاملة والحلولية الكمونية بهذه الصيغة فحسب، بل إن المسيري في هذا السياق يقدم تحليله لعدة مصطلحات ومفاهيم مستعملة عادة في الخطاب الفلسفي الفكري والثقافي بل والعام تعبر عن نموذج العلمانية الشاملة منها: “أن ما يحكم العالم هو قوانين الحركة أو قوانين التغير أو قوانين الضرورة الطبيعية”، وإن قلنا “لا يستطيع الإنسان تجاوز حدود المادة”، أو حدود الطبيعة”، أو “حدود جسده”، فنحن نتحدث في إطار حلولي كموني واحدي مادي، ينكر وجودأية آفاق مفارقة للممعطيات المادية، وهذه وحدها تحوي كل ما يلزم لفهم العالم. وينتقد المسيري في هذا الإطار اضطرار الحلولي الكموني المادي للتحدث عن قدر من التجاوز لسطح المادة، وعن استقلالية الوعي الإنساني، وعن البناء الفوقي المستقل عن البناء التحتي، وهكذا، حيث تفرض الحلولية الكمونية الواحدية نفسها لتؤكد أن مستقر الحقيقة هو القانون الكامن في المادة، فيضطر ذلك الحلولي إلى القول بأن الوعي الإنساني، في نهاية الأمر، وفي التحليل الأخير، يمكن رده إلى حركة المادة، وبأن البناء الفوقي ليس ظاهرة مستقلة، وإنما هو ظاهرة تابعة وحسب. ويعرج المسيري بعد ذلك على تناول فكرة الإله ومكانتها في عدد من الفلسفات الغربية الحديثة كفلسفة هيجل ونيتشه وداروين مع تركيز خاص على الهيجلية باعتبارها أكثر صيغ الحلولية الكمونية شيوعًا.
المجاز والتجاوز
يذهب المسيري إلى أن المجاز اللغوي، أي الاستعارة، والكناية، والمجاز المرسل جزء أساسي من التفكير الإنساني، أي جزء من نسيج اللغة، التي هي جزء لا يتجزأ من عملية إدراك العالم. ويدرك المسيري المجاز باعتباره وسيلة الإنسان اللغوية للتعبير عن الإله المفارق للعالم وذلك من خلال مفهوم “المسافة” بين الدال والمدلول، والتي هي مسافة لا يمكن عبورها أو تخطيها لكن يمكن تقريبها وتحويلها إلى مجال للتفاعل عن طريق المجاز الذي يوسع من نطاق اللغة الإنسانية، ويجعلها أكثر مقدرة على التعبير عن الإنساني المركب واللامحدود، وذلك بخلاف اللغة الرياضية أو اللغة التفكيكية التي يجترحها الخطاب الحلولي الكموني للتعبير عن عالمه الواحدي المغلق.
وينطلق المسيري بعد ذلك إلى تحليل الصورتين المجازيتين الأساسيتين في الحضارة الغربية وهما الصورة الآلية والصورة العضوية.
ويقدم المسيري عدة فروقات بين الصورتين يمكن تلخيصها في التالي:
-يفترض النموذج العضوي (أي الذي يرتكز على الاستعارة العضوية الأساسية) ان العالم كلٌّ مترابط الأوصال كالكائن الحي، ولذلك فهو في حالة حركة دائمة، وأن المبدأ الواحد الذي يسري في الكون ويحركه هو مبدأ عضوي كامن فيه. وذلك بخلاف النموذج الآلي (أي الذي يرتكز على الاستعارة الآلية الأساسية) الذي يذهب إلى أن العالم أيضًا في حالة حركة دائمة، إلا أن المبدأ الواحد ليس كامنًا في الكون، والظواهر لا تنمو بقوة دفع من داخلها، وإنما هناك قوة دفع خارجية تقوم بتحريكه (الساعة على سبيل المثال في حالة نيوتن) التي تدور وتدار من الخارج حسب معايير فرضها صانع الساعة، لكنها بعد ذلك تسير بغير تدخل من عقل أو توجيه.
-يذهب النموذج العضوي إلى أن الكل العضوي أكبر من مجموع أجزائه، وإلى أن الجزء لا وجود له خارج الكل، بينما يذهب النموذج الآلي إلى أن العالم مكون من أجزاء وذرات لكل وجودها المستقل، وتركيبها ثابت وبسيط. وترتبط الأجزاء بالكل، إن وجد، برباط آلي.
– يأخذ الإله (مركز النموذج وقوته الدافعة) في الصورة العضوية شكل روح العالم أو أنفاسه، او القوة الدافعة للمادة الكامنة فيها، بينما في الصورة الآلية فالإله هو المحرك الاول، يشبه صانع الساعة الماهر الذي يضبطها تمامًا ثم يتركالها وشأنها.
– يفترض النموذج العضوي المتمركز حول الإنسان أن العقل البشري قد يكون جزءًا من الطبيعة، ولكنه مع هذا حي خلاق فعال، لا يدرك العالم عن طريق تلقيه بشكل سلبي، وإنما بإعادة صياغته، بينما يفترض النموذج الآلي أن العقل البشري هو جزء من كل آلي مادي، فهو سطح شمعي أملس سلبي، يتلقى المعطيات الخارجية الموضوعية ويسجلها بسلبية.
الأصولية والحرفية
يعتبر المسيري أن النص المقدس هو نص مجازي توليدي، لا يمكن فهمه إلا بإدراك طبيعته المجازية، فهو نص يشير إلى الدنيا والآخرة، عالم الشهادة وعالم الغيب، عالم الحواس وماوراء الحواس، فهو نص ثنائي وليس واحديًا. وذلك بخلاف النص العلماني فهو نص دقيق، ترتبط الدوال فيه بمدلولات حسية أو مادية. ويفرق المسيري في هذا السياق بين اصطلاحي “الأصولية” و “الحرفية”، فالأصولية هي رفض لكثير من الممارسات الدينية، وبعض تفسيرات الكتاب المقدس التي تراكمت عبر العصور، ودعوة إلى العودة إلى أصول الدين الأولى، وممارسات واجتهادات الأولين ومحاولة تفسيرها تفسيرًا جديدًا يلائم حاجات الزمان والمكان اللذان يوجد فيهما المفسّر “الأصولي”. أما الحرفية فهي أن يلجأ المؤمن بكتاب مقدس إلى التمسك بحرفية النص، دون اجتهاد أو إعمال عقل، وكأن النص يحمل رسالة واضحة مباشرة صريحة؛ مثل القاعدة العلمية، أو اللغة الجبرية، أو الصيغة السحرية، او الأيقونة التي تفضي بمعناها لمن يتعبد أمامها.
إن الحرفية في هذا السياق هي مطية الحلولية الكمونية حيث تلغي المسافة بين الدال والمدلول، وتلغي فكرة الزمن تمامًا، وتلغي ثنائية الدنيا والآخرة. فالتاريخ المقدس يصبح “سيناريو” ماديًا مباشرًا (صورة طبق الأصل من الواقع)، آخذًا في التحقق الآن وهنا (ولذا لا يمكن الاجتهاد في التفسير)، وكل ما ورد في النص المقدس يتحقق حرفيًا في ذلك التاريخ، ومن ثمَّ، فإن التاريخ المقدس (المطلق) يحل في التاريخ الإنساني (النسبي)، ويصبح النص المقدس أيضًا متطابقًا تمامًا مع الطبيعة (وقوانين العلم). ولهذا، فإن كلام الإله المتجاوز يصبح قوانين الحركة.
خاتمة
إن هذا الكتاب نتاج لسنوات طويلة من البحث والمقارنة والتدقيق، فمن قرأ كتابات المسيري يدرك أنه التفت إلى مسألة الحلولية مبكرًا مع دراسته للصهيونية وفكرة شعب الله المختار، ثم تناولها في كتاباته العديدة في نقد الحداثة، ثم في تحليله لتاريخ الأفكار السياسية الغربية، ثم في سعيه لفهم عقيدة التوحيد والتنزيه في الإسلام، وكتب هذا الكتاب رسمًا للخريطة الواسعة تلك بعد أن ضجت الفكرة، وجمعًا لما تفرق وبيانًا لمعالم نظرية متجانسة في الحلولية، وسعيًا لبناء نموذج تفسيري نافع.