(الحكمة العربية: دليل التراث العربي إلى العالمية).عرض/عمر كوش
ينصب جهد المؤلف في هذا الكتاب على إبراز ما يتضمنه التراث العربي من كتابات ورسائل وأقوال في الحكمة وأبوابها، موجهاً اهتمامه ليس إلى الجوانب التي استهلكت بحثاً وتأويلاً، بل إلى تلك الجوانب والفصول المنسية والمهمّشة في التراث، ومحاولة انتقاء ما يمكن أن يجعل منه تراثنا عالمياً، وما يحفظ مكانته المتميزة، وما يُمكّن الإنسان العربي من مواجهة موجات العولمة الثقافية العاتية، وما يجعل قارئ التراث متشوقاً إلى قراءة تلك الكتب القديمة التي تكاد تصبح مهجورة أو في طي النسيان.
رداً على التجاهل
-الكتاب: كتاب الحكمة العربية.. دليل التراث العربي إلى العالمية
-المؤلف: د.محمد الشيخ
-عدد الصفحات: 622
-الناشر: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت
-الطبعة: الأولى/ 2008
يعزو المؤلف اختياره موضوع الكتاب إلى التجاهل المتعمد في ذكر المفكرين والفلاسفة العرب عندما يكتب مفكرو الغرب، ومعهم بعض الكتاب العرب، عن مفهوم “الإنسان” ومفهوم “الموت” ومفاهيم “الغير” و”الغربة” و”الوحدة” و”الصداقة” و”العنف” و”التسامح” و”التيه” و”الحيرة” وغيرها من مواضيع الفكر العالمي المعاصر، حيث يأتي ذكر أسماء أفلاطون وأرسطو وشيشرون والقديس أوغسطين ومونتيني وباسكال ونيتشه وغيرهم، ولا تجد ذكراً لاسم أبو حيان التوحيدي ومسكويه والراغب الأصبهاني والجنيد والنفري وسواهم.
فعند الحديث عن “المالنخوليا”- “السويداء”- تراهم لا يذكرون رسالة الكندي في دفع الأحزان، ولا رسالة ابن سينا في الحزن. وعند ذكر “الصداقة” لا يذكرون رسالة التوحيدي في الصداقة والصديق، ولا رسالة الغزّي في آداب العشرة وذكر الصحبة والأخوة، ولا رسالة ابن عرضون في آداب الصحبة.
وعند ذكر “الموت” لا يذكرون رسالة ابن مسكويه في علاج الخوف من الموت، ولا كتاب الموت لابن أبي الدنيا. وعند ذكر “الغربة” لا يذكرون أدب الغرباء للأصفهاني، ولا رسالة الغربة الغريبة للسهروردي، ولا حتى غيرها من النتف والمتفرقات.
فضل الحكميات
يبدأ المؤلف بسرد ما قيل في فضل الحكمة ومعناها، وما يؤكد فضل العرب في هذا المجال، وخوضهم لهذا الحيز، حيث يذكر أحاديث العرب في الحكمة على شكل مقتطفات، وأحاديث غير العرب في فضل ومكانة الحكمة العربية.
ثم ينتقل إلى تبيان فضل الحكيمات العربيات اللواتي ضاهين الغربيات، إذ أن ما حدث للغرب حين أهمل الحكيمات الفيثاغوريات والأفلاطونيات، حدث كذلك للحكيمات العربيات، من إهمال لكتابة سيرهن وتدوينها، وعدم التأليف فيها وإخراجها للناس. ويعتبر أنه مثلما علّمت ديوتما الحكيم أفلاطون معنى “الحب الدنيوي” في محاورة “المأدبة” فنسبت النظرية إليه ونُسيت المعلمة، كذلك علّمت رابعة العدوية الجنيد معنى “الحب الإلهي” فكان ما كان.
أما فاطمة بنت أحمد بن يحيى فكانت تستنبط الأحكام الشرعية، فيما كانت فاطمة النيسابورية تتكلم وتعظ في معاني القرآن. وما أكثر الجواري اللواتي أبدعن في الثقافة العربية إبداعاً، وتفنّن في الشعر والغناء تفنناً.
الإسهام العربي
“إبراز الإسهام العربي في مجال الحكمة لا يعني الانكفاء على التراث وجعل العرب {أمة تراثية} بلا مدافعة، ويصير أفرادها {كائنات تراثية} بلا منازعة، بل يعني تثمير الجانب الحيّ من هذا التراث”
يرى المؤلف أن إبراز الإسهام العربي في مجال الحكمة لا يعني الانكفاء على التراث وجعل العرب “أمة تراثية” بلا مدافعة، ويصير أفرادها “كائنات تراثية” بلا منازعة، بل يعني تثمير الجانب الحيّ من هذا التراث، حيث يتضمن كتاب التراث العربي حكمة لا كفاء لها. أما فيما يتعلق بالحديث عن “حمقة العرب”، فإن لكل شعب حمقته، مثلما أن لكل شعب حكمته.
وينطلق من أبي حيان التوحيدي الذي رأى أن الأمم كلها شركاء في العقول، وإن اختلفت في اللغات، وهذا يقضي بأن الخيرات والفضائل والشرور والنقائص مفاضة على جميع الخلق. ومثلما لا يجوز الزعم بأن العرب وحدهم كانوا حكماء، كذلك لا يجوز أن ننزع عنهم كل حكمة. أكثر من هذا، فإن بعض مفكري العرب بلغوا من العقلانية مرتبة رفيعة، إذ حتى في القرون التي كانت فيها سلطة الفقهاء على أشدها، ذهب فقيه شافعي إلى حد إنكار وجود السحر.
ويتجسد مطمح المؤلف من الكتاب في تنبيه القارئ إلى ما يتضمنه التراث العربي من آفاق انفتاحية -لا انكفائية- تجعله يحتل بحق مكانة متميزة في التراث العالمي، ويكون عدة وعوناً على مواجهة موجة العولمة الثقافية العاتية، فالتراث العربي يزخر بإمكانات فذة وفرصاً بديعة وانفساح آماد شاسعة. ونجدها ليس في التراث الذي استهلك وكاد يُقتل بحثأً، وإنما في التراث المنسي والمهمش والمتهم والمستبعد.
كتب الحكمة
يطيل المؤلف النظر في متن نصوص الحكمة العربية المتناثرة، ليجد أن ما من حكمة إلا وقد بُنيت على تصور معين للإنسان، وهي، كائنة ما كانت، نظر في الإنسان أيان كان، وذلك حتى وإن هي لامته أو انتقدته أو عنفته. ويقسم كتابه إلى مجموعة من الكتب التي تبحث في المفاهيم الإنسانية من خلال التراث العربي، وجاءت في ثلاثة عشر كتاباً، هي: الإنسان، الغير، الصداقة، الغربة، الانفراد، الحرفية، الحيرة، الحواس، القراءة، الكتابة، الترجمة، الشهرة، الموت.
ويريد منها أن تشكل دليل التراث العربي إلى العالمية، معتبراً أن فردوس الحكمة العربية يجمع أنواعاً من محاسن الكلم فذة، وحدائق من الحكم قلّ أن تجد لها نظيراً في ثقافات أخرى، بل إن من الحكماء العرب من تمكنوا أن يبزوا بكتاباتهم وحكمهم إسهامات حضارات أخرى.
“من حكم العرب أن الإنسان مؤلف من أخلاط ومركب من طبائع ومتضادات، لا هو ملاك ولا هو بهيمة، وإنما هو كائن بيني له من النقائص قدر ما له من الكمالات”
ويورد المؤلف في الكتاب الأول الذي يسميه “كتاب الإنسان” أهم ما قاله حكماء العرب في أمر “الإنسان”: من هو الإنسان؟ وبم كان الإنسان إنساناً؟ وما وجه “إنسانيته”؟ فقد ذهب بعضهم إلى أن الإنسان سُمّي إنساناًَ لنسيانه، وذهب آخرون إلى أن لفظ الإنسان اشتق من الأنس، إن بمعنى الظهور إلى العيان أو بمعنى الاستئناس. فيما رأى أبو حيان التوحيدي أن الإنسان مؤلف من أخلاط ومركب من طبائع ومتضادات، لا هو ملاك ولا هو بهيمة، وإنما هو كائن بيني له من النقائص قدر ما له من الكمالات.
وفي “كتاب الغير” يورد ما خصته الحكمة العربية من أنظار من خلال الإجابة عن سؤال: ما موقف حكماء العرب من “الغير”؟ هل نقصيه أم ندنيه؟ نسامحه أم نقاتله؟
والواقع هو أن “الغير” قد يكون صديقاً وقد يكون غريباً، لذلك يخصص “كتاب الصديق” لجواب الحكمة العربية عن السؤال: أيوجد ثمة “صديق” حقاً؟ وإن وجد فمن هو “الصديق”: أهو الموالف لنا أم المخالف؟ كما يخصص “كتاب الغريب” للنظر في أمر نظر حكماء العرب في شأن: من هو “الغريب”؟ أهو الغريب عن وطنه أم الغريب في وطنه ؟
وفي معظم الثقافات الإنسانية كان الغريب منبوذاً، ولم تكن الثقافة العربية ببدع من ذلك، لكن للعرب تقاليد في الإحسان إلى الغرباء. فمنهم من لا يؤوي إلا الغرباء، ومنهم من لا يعلّم إلا الغرباء، ومنهم من لا يكرّم إلا الأدباء الغرباء. وقد ميّز العرب بين الغربة عن الوطن، و”الغربة عن الزمان”، إلى جانب “الغربة عن النفس” في عرف المتصوفة.
غير أن من شأن الغربة أن تشعر صاحبها بالوحدة، فكان موضوع “كتاب الانفراد” خاصاً بموضوع “الوحدة”: أمحمودة هي أم مذمومة؟ ما الملجأ إليها وما المانع؟ ما بواعثها وما صوارفها؟ وما معنى أن يكون المرء وحيداً منفرداً؟
“قدم الحكماء العرب آراء متناقضة في “الانفراد” أو “العزلة”، فمنهم من آثر الجماعة ومنهم آنس إلى الوحدة، وقد عبروا عنها تعابير متنوعة، كالاختلاء والانفراد والتفرد والانعزال والانزواء والانقطاع وغيرها”
وقدم الحكماء العرب آراء متناقضة في “الانفراد” أو “العزلة”، فمنهم من آثر الجماعة ومنهم آنس إلى الوحدة، وقد عبروا عنها تعابير متنوعة، كالاختلاء والانفراد والتفرد والانعزال والانزواء والانقطاع وغيرها. ورأى بعضهم أن “التفرد يبطل الإنسانية”، فيما رأى آخرون أن رُبّ وحشة أنفع من أنيس، ووحدة أمتع من جليس. ومن شأن “الوحدة” أن تحيل المرء إلى ذاته باحثاً عن الحقيقة في نفسه: وقد يستيقن وقد يحير، ولذلك جاء “كتاب الحرفية” وموضوعه نظرة الحكماء العرب إلى من يجمد على “الحرف” ويستنيم إلى التقليد” و”الحيرة”.
ويأتي “كتاب الحيرة” ومداره على دور الشك والسؤال والحيرة في توخي عقل عربي صاح متيقظ، وتوقي عقل عربي غاف غافل. والغالب على الثقافة العربية الإسلامية طلب اليقين، فمن حار وقع في التيه، لذلك أكثر الحكماء العرب من الكتابة في اليقين، بيد أن هناك من مدح الشك كأبي العلاء المعري في أشعاره عن الحيرة والشك والتساؤل. ويظل سؤال الحيرة في ثقافتنا موضع تهمة، لكن ذلك لم يمنع بعض مفكري الإسلام كابن الهيثم إلى أن الواجب على الناظر في كتب العلوم أن يجعل من نفسه خصماً لكل ما ينظر فيه، ويتهم أيضاً نفسه عند خصامه.
وفي “كتاب الحواس” يعرّج المؤلف على مواضيع تصل الإنسان بالمعرفة والوجود، وعلى احتفاء الحضارة العربية بثقافة الحواس وبنائها لحكمة وآداب خاصة بالحواس، مؤكداً أن الثقافة العربية، كانت خلافاً لما ظنّ البعض، ثقافة احتفاء بالحواس، وما كانت ثقافة العقل وحده ولا ثقافة النقل وحده. ولطالما وقف حكماء العرب عند الحواس الخمس وملذاتها، وأعجبوا بعملها وعدوّها من المعجزات الشاهدة على عظمة الخلق وجلال الخالق، وألفوا فيها تآليف شتى، ووضعوا لها آداباً وسلوكاً.
ويتناول “كتاب القراءة” دور “القراءة” في أمة “اقرأ”، فيما يبني “كتاب الكتابة” على النظر في أمر: ما معنى أن “يكتتب” الإنسان العربي؟ وما معنى ألا يكتب؟ وما الذي تعنيه “الكتابة” عنده؟
“الحكيم العربي عاشق للعلم، نديمه الكتاب، نسخاً أو مطالعة، بل ويسافر من أجله, وبلغ حب الكتاب بالعرب أن أقاموا له أسواقاً، وأنشأ بعض حكمائهم في حب المعرفة نصوصاً فريدة ”
وللقراءة –كما الكتابة- موقع مميز في ثقافتنا العربية، فالحكيم العربي عاشق للعلم، نديمه الكتاب، نسخاً أو مطالعة، بل ويسافر من أجله. وقد بلغ حب الكتاب بالعرب أن أقاموا له أسواقاً، وأنشأ بعض حكمائهم في حب المعرفة نصوصاً فريدة، لذا لم يكن بدعاً في بعض الملوك ألا تشغلهم السياسة عن المطالعة.
وفي “كتاب الترجمة” يجري على النظر في معنى “الترجمة” في ثقافة العرب ودلالتها، حيث ميز العرب بين الترجمة التي تكون مباشرة والترجمة التي تكون عن لغة وسيطة، كما وضعوا معايير للترجمة، وتحدثوا عما سموه مبلغ قوة كل واحد من أولئك المترجمين في الترجمة. كما ميزوا في العمل الترجمي بين مرحلتين مرحلة النقل أو الترجمة ومرحلة الإصلاح أو التصفح أو التهذيب، وأدركوا أن الترجمة حرفة وصنعة، وأن ما كل من أنس من نفسه القيام بها قام.
ويدور “كتاب الشهرة” حول النظر في تأرجح الحكيم العربي بين مطلب “الشهرة” وحادي “الغمرة” أم “الموت” الذي هو نهاية مطاف الوجود الإنساني، لذلك يدور الكتاب الأخير على معنى “الموت” في الحكمة العربية ودلالاتها وبواديها وخوافيها والجزع منها والاسترسال إليها.
رابط عرض الكتاب:
http://www.aljazeera.net/