الحقوق والحريات في الشريعة الإسلامية

كان الاهتمام بموضوع تحرير الإنسان واحترام إرادته وحفظ كرامته وعدم الانتقاص من حقوقه واضحًا أشد الوضوح في دعوة الإسلام منذ فجرها، وتقرر ذلك بقواعد وأصول قطعية باقية إلى يوم القيامة، لم تتعرض للنسخ أو الإبدال.

وبما أن الناس مفطورون على الاجتماع، ولا يستطيعون العيش إلا مجتمعين بسبب عجز الفرد عن تحصيل مستلزمات عيشه وحده، كان لابد من إيجاد سلطة تنظم شؤونهم، وتحفظ حقوقهم، وتمنع الاعتداء، وتقيم الحدود، مما يؤدي إلى وجود فريقين حاكم ومحكوم وآمر ومطيع، ويقتضي هذا تنظيم العلاقة بينهما، ليعرف كل فريق حقوقه وواجباته، وهذا هو موضوع الحقوق والحريات السياسية الذي يحتاج إلى مزيد من البحث والدراسة وبشكل مستمر لمعالجة ما يتعلق بهذا الجانب من مسائل متجددة.

يطرح هذا الكتاب سؤالاً حول: هل هناك نظرية إسلامية متكاملة تعالج موضوع الحقوق والحريات السياسية من خلال رؤية فقهية أصيلة تراعي روح العصر وتطورها؟

ويهدف الكتاب إلى تجلية نظرية الإسلام وتوضيحها من أجل المساهمة في تنظيم العلاقة بين المواطن والسلطة، وتوضيح ما يترتب على كل منهما من حقوق وواجبات شرعية متبادلة.

أما مؤلف الكتاب فهو الدكتور رحيل غرايبة فهو سياسي ومفكّر أردني، الأمين العام لحزب المؤتمر الوطني”زمزم” الذي انبثق عن المبادرة الأردنية للبناء.

قسّم المؤلف كتابه إلى عدة أقسام، تناول في الفصل الأول من القسم التمهيدي منها معنى الحق والحرية، وفي الفصل الثاني قضية الجنسية والمواطنة وأثرهما في الحقوق السياسية.

أما القسم الأول من الكتاب فقد عنونه المؤلف بـ”الحقوق السياسية في الشريعة الإسلامية والقانون”

ويناقش فيه المؤلف الحقوق السياسية في الشريعة الإسلامية من حيث هي حق للترشيح، وحق للانتخاب، وحقٌ في تشكيل الأحزاب والجمعيات والحق في المعارضة، وحق للشورى، وحرية للرأي، وحق للأمة في رقابة الحاكم وتقويمه وعزله إن استحق العزل.

يعني حق الترشيح الذي هو من أهم الحقوق السياسية بالنسبة إلى المواطنين أن لكل عضو في الجماعة السياسية أو مواطن في الدولة، الحق في أن يرشح نفسه لتولي رئاسة الدولة أو عضوية المجلس التشريعي، إذا كان ممن تنطبق عليهم الشروط المحددة في الدستور. ولا يجوز أن يُحرم من هذا الحق دون مبرّر مشروع.

ويرى المؤلف أن حق الترشيح معروف في الإسلام وجرى العمل به في المناسبات السياسية المشهورة، بالذات ما أعقب وفاة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وذلك عندما اجتمع المسلمون في سقيفة بني ساعدة من أجل اختيار الخليفة الذي يخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فسارع الأنصار في ترشيح زعيمهم الصحابي “سعد بن عبادة”، ثم جرى ترشيح أخر من طرف المهاجرين حيث رشح أبي بكر رضي الله عنه عمر بن الخطاب وأبي عبيدة عامر بن الجراح كما سارع عمر وأبو عبيدة إلى ترشيح أبي بكر نفسه حتى استقروا على مبايعة الصديق رضي الله عنهم أجمعين.

ويناقش المؤلف في هذا الفصل أيضًا قضيتين حساستين هما ترشّح المرأة لعضوية المجالس التشريعية ومجالس الشورى، ويرى المؤلف أن هناك إجماعاً منقولاً عن الفقهاء على عدم جواز ترشح المرأة للخلافة، ولكن هذا الحكم لا يشمل جميع الولايات والمناصب السياسية والإدارية، فيجوز للمرأة الترشح لعضوية المجالس التشريعية، ويجمل المؤلف خلاف الفقهاء حول هذه المسألة اتجاهات ثلاثة:

الاتجاه الأول يرى حرمانت المرأة من كل الولايات العامة على الإطلاق، بل من كل حقوقها السياسية كذلك، فلا يحق لها الترشح أو الانتخاب أو الشورى. ومن أصحاب هذا الرأي جمهور الفقهاء القدامى مثل المواردي والجويني وابن العربي وابن قدامة، ومن المعاصرين: الشيخ محمد المدني من علماء الأزهر وجمال الدين الأفغاني والشيخ محمد أبو زهرة وأبو الأعلى المودودي.

الاتجاه الثاني يرى جواز تولي المرأة الولايات الخاصة والعامة باستثناء رئاسة الدولة أو الإمامة العظمى، ومن هؤلاء فقهاء الحنفية الذين يجيزون تولي المرأة ولاية القضاء وفيما تقبل به شهادتها، وبعضهم يجيز ولايتها القضاء مطلقًا كالإمام الطبري والإمام بن حزم. ومن المعاصرين الشيخ شلتوت ومصطفى السباعي والشيخ محمد رشيد رضا وعبد القادر عودة.

أما الاتجاه الثالث فيرى جواز تولي المرأة كل الولايات العامة مثل الرجل بما فيها الولاية العظمى، ومن هؤلاء فرقة من الخوارج ومن المعاصرين عبد الحميد متولي وظافر القاسمي.

وبعد مناقشة أدلة الاتجاهات الثلاثة يخلص المؤلف إلى أن الرأي الراجح عنده هو أن المرأة لها حق التمتع بجميع الحقوق السياسية على قدم المساواة مع الرجل، باستثناء (الرياسة العظمى) وذلك عملاً بالأصل القطعي في الشريعة الذي يقضي بمساواة الرجل والمرأة في الخطاب التكليفي والشرعي وما يقتضيه، مع مراعاة الاستثناء الذي ورد بنص صحيح وأيده الإجماع.

ويدلف المؤلف في الفصل التالي إلى حق الانتخاب وهو ما يعرفه أهل القانون بأنه الوسيلة الديمقراطية لإسناد السلطة السياسية، والتي يتحقق عن طريقها تكوين الهيئات النيابية. ويذكر المؤلف في هذا السياق أربعة اتجاهات متمايزة للتكييف القانوني للانتخاب

الاتجاه الأول: يرى أن الانتخاب حق من الحقوق الذاتية للأفراد.

الاتجاه الثاني: يرى أن الانتخاب وظيفة اجتماعية.

الاتجاه الثالث: يرى أن الانتخاب اختصاص دستوري

الاتجاه الرابع: يرى أن الانتخاب سلطة قانونية مقررة للناخب.

ومن ناحية أخرى يناقش المؤلف مبدأ الانتخاب في التشريع الإسلامي، حيث تقوم فكرة الانتخاب على معنى الاختيار، ومبدأ مشاركة الأمة في تعيين من يدير أمرها ويحفظ مصالحها. ويرى المؤلف بعد أن ناقش طرق تعيين الخليفة وأدلتها أن ثمة مجموعة من الأدلة التي تؤيد مبدأ الانتخاب وتعتبره الوسيلة المعتمدة لإسناد السلطة السياسية وهي:

*مبدأ الرضى والاختيار.

*مبدأ النيابة عن الأمة.

*مبدأ اشتراك الأمة باسناد السلطة السياسية.

أما الجق في تشكيل الأحزاب والجمعيات والحق في المعارضة فقد خصّه المؤلف بالفصل الخامس الذي لخصّ فيه ما رأه موقفًا شرعيًا من هذه القضية في النقاط التالية:

*أن الإنسان بالطبع، وأن الناس يحتاج بعضهم بعضًا.

*أن الأحزاب السياسية تشكل أداة مهمة من أدوات التخفيف لأثر العصبية في النفوس، وأثر رابطة الدم والولاء للعشيرة في الفعل السياسي العام.

*أن الأحزاب السياسية تشمل آلية عملية لتنفيذ أمر الله جل وعلا القاضي بالتجمع من أجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

*أنه يمكن النظر إلى الأحزاب السياسية على أنها تجارب بشرية متراكمة عبر مراحل التاريخ، وتعتبر أنماطًا متطورة من التعامل مع السلوك الإنساني ضمن المنظومة الاجتماعية والسياسية، وجاءت تلبية لحاجات الناس المتنامية في المجال السياسي.

وكان حق الأمة في رقابة الحاكم وتقوميه وعزله إن استحق العزل أحد المحاور الهامة التي عمل الكتاب على توضيح الرأي الشرعي فيها فيبدأ بسرد الأدلة الشرعية الدالة على حق الأمة في مراقبة الحاكم وعزله من الكتاب والسنة والإجماع. ثم يتطرق للجانب العملي المتعلق بكيفية ممارسة الأمة لدورها في الرقابة والمحاسبة فيجمل هذه الكيفية في عدة طرق:

*عن طريق ممثلي الأمة

*المراقبة الفردية والشعبية

*المراقبة عن طريق الأحزاب السياسية والجمعيات والهيئات التمثيلية المختلفة

*المراقبة الفردية.

ويستند حق الأمة في عزل رئيس الدولة إلى عدة تأسيسات أولها أن مسئولية إقامة الحكم الإسلامي تقع على عاتق الأمة جميعها، وقد وجه الله الخطاب إلى المؤمنين كافة، والأمة توكل عنها من يقوم بأداء هذا الواجب، فالخليفة بمقتضى هذا التصور وكيل عن الأمة ونائب عنها في جميع تصرفاتها.

أما الأساس الثاني فهو أن الخلافة في الشريعة “عقد” بين الأمة والحاكم، يتم عن طريق “البيعة”، وبموجب هذا العقد يثبت لكل طرف حقوق وواجبات، وأخيرًا فمبدأ الطاعة متعلق فقط بالمعروف.

وبعد أن ينتهي المؤلف من تبيان الحقوق والحريات السياسية في الشريعة، يدلف في القسم الثاني من الكتاب إلى مناقشة ضمانات تلك الحقوق والحريات السياسية في النظام السياسي الإسلامي والنظم المعاصرة.

وهي الضمانة الدستورية والمشروعية التي تعني وجود قواعد قانونية عليا تنظم إقامة النظام السياسي للدولة، وكيفية إنشاء السلطات المختلفة، وتحديد اختصاصاتها، وكيفية ممارسة هذه الاختصاصات.

أما الضمانة الثانية فهي الضمانة القضائية وما يتصل بها من شئون، وفي هذا السياق يؤكد المؤلف على استقلالية القضاء في الإسلام ورفضه لتلاعبات السلطة التنفيذية بالقضاء والقضاة خدمة لأغراضها. وقد تطور النظام القضائي في الإسلام تطورًا كبيرًا وذلك نتيجة للعناية الكبيرة التي كان يوليها الخلفاء للقضاء، لما كان له من دور كبير في حفظ حقوق المواطنين وصيانة حرياتهم. ويشكل القضاء في الإسلام الدعامة الرئيسة لحفظ الحقوق وصيانة الحريات، لأن مهمته الكبرى تتجلى في وقف الظلم ودرء الفساد، وقطع دابر التنازع والخصام والفصل بين المتخاصمين، وحفظ الشرع وأوامره. ويمكن تلخيص دور القضاء في الإسلام في هذا المجال في النقاط التالية:

*فحص مشروعية القرارات الصادرة عن السلطات الإدارية المختصة والتأكد من استنادها إلى الشريعة الإسلامية ومقاصدها وقواعدها العامة.

*إلغاء القرارات غير المشروعة وإبطالها والامتناع عن تنفيذها.

*القضاء بالتعويض عن الأضرار المادية والمعنوية التي تقع على الأفراد نتيجة تطبيق القرارات غير المشروعة.

خاتمة: يمثّل هذا الكتاب نموذجًا للاجتهادات الوسطية المعاصرة التي تغيّت الدمج بين مقاصد الشريعة وبعض آلياتها التي تناسب العصر الحديث مع آليات الحكم الديمقراطي الحديث باعتباره ضمانة ضد الاستبداد المعاصر، ويظل هذا اجتهاداً له ما له وعليه ما عليه إلا أن نُبل الهدف يظلله، وما أنبل هدفه.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق

السلة

لا يوجد منتجات في سلة المشتريات.