في سياق بحثه عن نظرية ديمقراطية للمجتمعات المسلمة، يشير الباحث في جامعة دنفر الأمريكية نادر هاشمي في كتابه «الإسلام والعلمانية والديمقراطية الليبرالية» (الذي تُرجِم مؤخراً للعربية عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر ترجمة أسامة غاوجي/ وكان قد صدر بالإنكليزية سنة 2009 عن مطبعة جامعة أكسفورد) إلى أن ظروف صعود الأصولية الإسلامية في الشرق الأوسط في القرن الواحد والعشرين، هي مشابهة في سياقها السياسي وخلفياتها الاجتماعية/الاقتصادية للحركات الأصولية البيوريتانية، التي شهدتها أوروبا في القرن السادس عشر والسابع عشر. ورغم تأكيد هاشمي على وجاهة بعض الاعتراضات حيال هذه المقارنة بين التجربتين، مع ذلك فهو يعتقد «أن المجتمعات التقليدية التي تقف على تخوم الحداثة، تخوض وتختبر عمليات متشابهة، من التفكير والقلق والانهيار وإعادة البناء لعدد من الأسباب المتشابهة التي تؤدي إلى نتائج يمكن مقارنتها ببعضها بعضا، خاصة في المجتمعات التي يشكل الدين فيها محدداً رئيسياً من محددات الهوية».
وانطلاقاً من نفسٍ بروديلي (نسبة الى فرناند بروديل؛ المؤرخ الفرنسي وأحد مؤسسي مدرسة الحوليات، الذي انتقد فكرة التاريخ الحدثي بسبب محدودية قدرته التفسيرية، واقترح عوضاً عن ذلك الأخذ بفكرة الأمد الطويل، من خلال فهم الظاهرة التاريخية ضمن حيز زمني طويل)، يرى هاشمي أن المقارنة بين بعض الأحداث التي شهدها العالم الأوروبي، وما يشهده العالم الإسلامي اليوم، يمكن أن تساهم في تسليط الضوء على حالة «لوثرية» تقف على تخوم العالم الإسلامي، خاصة أن هذا العالم «يقف اليوم على مطالع القرن الخامس عشر للهجرة، وهو ما يقابل في تاريخ المسيحية قرناً قبيل تعليق مارتن لوثر القضايا الخمس والتسعين على باب كنيسة قلعة فيتنبرغ «.
وبناءً على هذه الرؤية، يحاول هاشمي أن يدعم نظريته هذه، من خلال حشد كم كبير من الأبحاث والكتب (وهو جهد بحثي يثنى عليه) التي حاولت أن تقرأ تاريخ البروتستانتية الراديكالية في أوروبا القرن السادس عشر والسابع عشر، ومن ثم مقارنتها بما كتب حول ظاهرة الحركات الراديكالية الإسلامية في القرن العشرين، داخل بعض الدول المسلمة مثل إيران أو مصر. وقد اعتمد في هذا السياق على أطروحة مايكل والزر «ثورة القديسين، دراسة في أصولها السياسة الراديكالية»، التي تناول فيها التحول الاجتماعي والديني، والتي سبق وساهمت في اندلاع الثورة البيوريتانية (حركة تطهيرية ذات أصول بروتستانتية) في إنكلترا القرن السابع عشر، وأيضاً على كتاب لورنس ستون «أسباب الثورة في إنكلترا: 1529-1642» كأرضية تاريخية ومعرفية ينطلق منها في سياق التأكيد على تشابه الظروف والواقع، بين كلا الحالتين الراديكاليتين (البروتستانتية والإسلاموية).
وبالعودة إلى ثورة القديسين، يرى والزر أن فترة القرن السادس عشر في إنكلترا تعد فترة تحول اجتماعي، إذ اتسمت هذه المرحلة بزيادة عدد السكان، والهجرة من الريف إلى المدينة، واتساع ظاهرة المشردين.. والفقر.. وانخلاع الأفراد من المجتمع القروي القديم، وهو ما أوجد آلاف المتسولين المنتشرين في الطرقات. كما يلاحظ ستون في بدايات القرن السابع عشر أن أعداد الأفراد المتعلمين من الطبقات المترفة كان ينمو بسرعة أكبر من نمو فرص العمل اللائقة، ففي الفترة الممتدة بين عامي 1530 و1630 ارتفعت نسبة المسجلين في الجامعات بنسبة 163٪ وهو ما يعادل ضعفي سرعة نمو السكان. وأخذت جامعات مثل أكسفورد وكامبريدج، تخرج طلاباً بسرعة أكبر من قدرة الاقتصاد والمؤسسات في تلك الفترة على الاستيعاب. وفي «وسط هذا الاضطراب ازدهرت الحركة البيوريتانية في المدينة، وفي الضواحي خاصة، عندما وجد المهاجرون المحرومون في الانضباط البيوريتاني عزاءً لهم، في ظل التهميش الذي يعانونه» (والزر). وقد قامت هذه الحركة على فكرة «أنه لا يمكن للآخرين أن يكون لهم ضمير صالح، اعتقاداً منهم بأنهم يتفوقون على خصومهم الأنجليكان بميزة أكيدة هي ميزة الإيمان الموضوعية الوحيدة، فكانوا بحكم اقتناعهم هذا، يعتبرون أن الحقيقة الأصلية هي في حوزتهم وحدهم، ويعقدون العزم على تسجيل الغلبة لهم» (تاريخ التسامح في عصر الإصلاح، جوزيف لوكلير). بناء على هذه الرؤية، وجد البيوريتانيون أن عليهم أن يجلبوا النظام والاستقرار إلى مجتمعهم، عبر الإطاحة بالمؤسسات الفاسدة وقتل الملك. ما ساهم – وفقاً لوالزر- في التأسيس لأيديولوجيا تحول داخل المجتمع الإنكليزي، عندما ظهر مجموعة من الغرباء ممن يتصورون أنفسهم رجالاً مختارين، وأخذوا يبحثون عن نظام جديد عبر الالتزام بضوابط تقشفية أو «تدين حربي» بات يؤثر في رؤية الفرد البيوريتاني إلى العالم المحيط به وكأنه في حالة حرب. لكن لاحقاً مع استقرار الأمور في إنكلترا وإعادة بناء النظام السياسي والمعنوي، بدأت طاقة رجال الله هؤلاء بالاضمحلال، وأصبح الناس العاديون متلهفين لهجر المعارك، بحثاً عن مسعى معتدل للفضيلة، مع ذلك فقد ساعدوا في عبور البشر أثناء مراحل التغير، لكن لم يكن لهم مكان في أوقات الاستقرار.
وتلخيصاً لرؤيته حول السياسات الراديكالية بناء على تاريخ إنكلترا الحديث يرى والزر أنه من المعقول أن نقارن القديسين البيورتان باليعاقبة الفرنسيين (أنصار الاتجاه المساواتي الأكثر تشدداً أثناء الثورة الفرنسية) وبالبلاشفة الروس (الذين قادوا الثورة الشيوعية في روسيا 1917) على أساس تشابهاتهم الأيديولوجية والتنظيمية. وبالتالي من خلال التركيز على صعود السياسات الراديكالية، يمكن أن نعثر على أخلاق «بروتستانتية» في حركات وتواريخ عديدة. ولعل هذه الملاحظة بالذات حول رؤية أخلاق بروتستانتية في تجارب تاريخية متعددة، هو ما سعى هاشمي إلى الكشف عنه داخل العالم الإسلامي، من خلال القول إن ملامح التشابه بين تجربة البيوريتان الأصولية وواقع الأصولية الإسلامية (لن نقف هنا عند كلمة أصولية) قد تقول بالفعل شيئاً كبيراً بخصوص تشابه التجربتين، خاصة في ما يتعلق بالمحتوى الثوري للأيديولوجيا (دفع المؤمنين للتعامل مع النصوص الأساسية للوحي بغير تدخل سلطة المؤسسات الدينية) أو بالأصول الاجتماعية لأتباعها (الطبقات الوسطى والدنيا).
وفي هذا السياق يذهب هاشمي في بحثه عن نموذج بيرويتاني داخل التجربة الأصولية الإسلامية إلى الاستدلال بالكثير من الدراسات والأبحاث التي اشتغلت على تاريخ الحركات الإسلامية والجماعات الجهادية، كما في كتاب سامي زبيدة «الإسلام والمجتمع والدولة» (ترجم قبل سنوات للعربية عن دار المدى). إذ رأى الأخير في دراسته لحركة الإخوان المسلمين في مصر، أنها مثّلت انقطاعاً جذرياً عن الصيغ الإسلامية السياسية التقليدية في التحريض أو الفعل، من هنا فإن هذه الحركة – وفقاً لزبيدة وهاشمي- هي بالأساس حركة مدنية حداثوية، تهدف إلى استبدال النظام القديم (كما في حال الحركة البيوريتانية) بآخر ينبني على القانون الإسلامي. كما أن الأصول الاقتصادية -الاجتماعية والخلفيات التعليمية للعديد من المنضوين في هذه الحركات، تكشف أيضاً عن أوجه تشابه كبيرة مع الحركة البيوريتانية، إذ بيّن السوسيولوجي المصري سعد الدين إبراهيم في إحدى دراساته التي أعدها في نهاية السبعينيات حول الأصول الاجتماعية والاقتصادية للناشطين الإسلاميين، أن معظم الناشطين الشباب الذين انضموا إلى الحركات الإسلامية في تلك الفترة كانوا قد حصلوا على شهادات جامعية، كما أن معظمهم قد جاء من خلفيات ريفية أو مدن صغيرة (وبشكل مشابه لما كان يحدث مع خريجي جامعة كامبريدج وأكسفورد، العاطلين عن العمل، الذين تحولوا إلى البيوريتانية، أو على مستوى هجرة الريف إلى المدينة الإنكليزية).. واستكمالاً للبحث عن مشهد بيوريتاني إسلامي، يخلص هاشمي إلى القول بأن ما يجعل الحركات الإسلاموية الراديكالية أقرب إلى الحالة البيوريتانية هو في كون الأخيرة كانت مسؤولة عن قطع الروابط البدائية مع العائلة والعشيرة والقبيلة والقرية. إذ تم استبدال هذه الروابط التقليدية، التي تقوم غالباً على بنى هرمية تراتبية وعلاقات عمودية بروابط أفقية عضوية تدور حول الولاء والتضامن بين الأفراد المتساويين. وهو الأمر الذي فعله الإسلاميون من خلال تأكيدهم على ضرورة القطيعة مع المؤسسة الدينية التقليدية، وأن كل فرد مسؤول بنفسه عن خلاصه.
من ناحية أخرى ساهم الإسلاميون من خلال شجبهم ورفضهم لمناخ الفساد (كما فعل البيوريتانيون) في تعزيز ثقافة الجدارة والاستحقاقية، ما قد يعني ولادة روح رأسمالية جديدة في العالم الإسلامي، في فترة مقبلة بشكل مشابه لما حدث في الحالة البروتستانتية الكالفينية، ولعل في هذه النتيجة ما يذكرنا بأطروحات شبيهة، مثل أطروحة ولي نصر «صعود قوى الثروة» (2009) أو أطروحة باتريك هايني «إسلام السوق» التي لم ترم إلى الكشف وحسب عن أشكال من البرجزة الإسلاموية عبر لغة وقراءة سوسيولوجية سريعة، بمقدار ما كانت تهدف أيضاً إلى التبشير بـ»إسلام البزنس» وفق تعبير الراحل صادق جلال العظم، الذي «يبدو أنه بات منذ النصف الثاني من التسعينيات يشكل بديلاً فريداً عن الإسلام السياسي، بامتداداته التي أفرزت حركات التشدد» (إسلام السوق، النسخة العربية). وفي هذا الشأن نجد أن هاشمي يقدم رؤية رومانسية لديناميات العمل داخل هذه الجماعات، التي برأيه تنظر إلى «الجدارة الفردية والتقوى بدل معايير الطبقة أو العائلة أو الروابط السياسية، بوصفها المعايير الرئيسية لترقية الفرد في مناصب المسؤولية داخل هذه الحركات». وهو ما يخالف بعض القراءات الأخيرة لداخل الحركات الإسلاموية، التي بينت كيف أن حالة الاستقطاب الفئوية والمناطقية وشبكات المحسوبية والنفوذ داخل هذه الجماعات باتت أحياناً تلعب الدور الأهم في اختيار الأشخاص القياديين، وعلى مستوى اتخاذ القرارات داخل هذه الجماعات، لكن بشكل عام يمكن فهم هذه النزعة البسيطة لفهم واقع الجماعات الإسلامية من الداخل، كون هاشمي بقي مهووساً بالنموذج السوسيولوجي البيوريتاني، وهو ما يعني في نهاية الأمر تأكيد نظريته حول أن الحركات الإسلاموية ما هي سوى البداية لتجربة بروتستانتية إسلامية في العقود المقبلة. وهنا نود أن نتساءل أمام هذه الطرح حول ما إذا كان الاستنتاج ينطبق أيضاً على جماعات الجهاد العالمي مثل «داعش»؟ خاصة أن السمات والأخلاقيات البيوريتانية نجدها في داخل هذه الحركات (تدين حربي طهراني يوسم العالم المحيط بالعدو، ورغبة في إصلاح الواقع والمجتمع، وظروف اقتصادية واجتماعية مشابهة، وانضباط صارم) وهو ما قد يعني أن البغدادي هو الشخص المقابل لكالفن، وأن «داعش» هم المقابل لثورة القديسين داخل العالم العربي الإسلامي.
لكن بشكل عام، وفي حال تجاوزنا السؤال الأخير، فإن ما يلاحظ في كشف هاشمي عن بواكير أخلاق بروتستانتية داخل العالم الإسلامي، هو في كون الأخير قد يمارس نوعاً من السيسيولوجيا اللوثرية الكسولة إن صح التعبير، وبالتالي ما علينا أمام هذه الإسقاطات والمقارنات التاريخية سوى الانتظار لبضعة عقود أخرى، ريثما يصل قطار التنوير الإسلامي إلى مدن مثل حلب والموصل والقاهرة، ولا داعي لقراءة عوامل الجغرافيا والاقتصاد السياسي وطبيعة المؤسسات السياسية، أو حتى لتحولات السوق الدينية، التي جعلت الفرد يختار ما يشاء من الرموز الدينية ويعرض عما يريد، ومن ثم يخلق لنفسه توليفة دينية تقطع مع الذاكرة الدينية التقليدية (وهي قطعية يراها هاشمي لا فكاك منها في سبيل لوثرة الإسلام) رغم أن هذه القطيعة وفقاً لأوليفيه روا، كانت عاملا أساسياً من عوامل انفجار السلفية في حياتنا اليومية. وهنا نود أن نشير إلى أن نقدنا هذا للجانب المقارناتي الكسول لدى هاشمي، لا يهدف إلى القول بضرورة القطيعة مع النظريات الغربية، أو القول بأن القراءات المقارنة هي قراءات فاشلة، خاصة أن الجانب المقارناتي مهم للغاية في فهم التشابهات والاختلافات بين المجتمعات، بل تكمن إشكاليتنا مع هذا الطرح في كونه يسعى وحسب إلى فهم وتفسير ديناميات الواقع والتاريخ المحلي، من خلال عدسة التجربة البيوريتانية، وبالتالي فهي تبقى رؤية لا سوسيولوجية، بل أقرب ما تكون للرؤية التبشيرية (بعكس ما يدعي هاشمي)، خاصة أن البحث السوسيولوجي وفقاً لساري حنفي لا يكتمل إلا عند توافر ثلاثة عناصر: الأول هو الجانب الميداني، الثاني يتعلق بإدراك أن الظواهر لا يمكن فهمها دون ربطها بديناميات التاريخ الاجتماعي والسياسي، أما العنصر الأخير فهو مقارنة الظاهرة في المجتمع المدروس مع أمثالها في مجتمعات أخرى، الأمر الذي يساهم في تطوير النظرية وفي تجاوز مشكلة «أسطورة الفرادة» واعتبار أن كل مجتمع فريد واستثنائي. ولعل ما يدل على هذه الرؤية الكسولة والبعيدة عند هاشمي (في إعادة قراءة ديناميات التاريخ المحلي في العالم الإسلامي خارج أطر القوالب الجاهزة)، محاولاته العديدة لي عنق بعض القراءات التي اشتغلت على العالم الإسلامي، لتتناسب مع نموذجه التطوري البيوريتاني في النظرية الديمقراطية المسلمة، حتى لو كانت خلاصات هذه الدراسات لا توافق فكرة تطابق التجربتين، وكمثال هنا يمكن أن نشير إلى دراسة إليس غولدبرغ «تحطيم الأصنام والدولة: الأخلاق البروتستانتية والراديكالية السنية المصرية» التي تعد – بقناعة هاشمي- أكثر المقالات اعتماداً على المقارنة العابرة للسياقات، حول موضوع البيوريتانية والجماعات الإسلاموية، «خاصة أنها تشير إلى أربع نقاط تلاق بين التجربتين». بيد أن العودة إلى دراسة غولدبرغ (ترجمت للعربية قبل سنوات في كتاب كيف نقرأ العالم العربي اليوم؟) تبين لنا أن الأخير رغم إقراره بوجود تشابهات بين الناشطين الإسلاميين المعاصرين والإصلاحيين البروتستانت في القرن السادس عشر، فهو لا ينحو نحو هذه القراءة التبسيطية، وبدلاً من ذلك يقترح علينا إعادة التدقيق ببعض هذه التشابهات مثل موضوع (التشابه في الواقع الاجتماعي والاقتصادي، كما فعل هاشمي) أو في مسألة (دور الحركات الإسلامية المبالغ فيه من قبل هاشمي في دعم مبادئ الجدارة والاستحقاقية، التي ساهمت في الحالة البيوريتانية في ولادة روح الرأسمالية).
وبالعودة إلى الواقع الاجتماعي/الاقتصادي، يرى غولدبرغ أن الحجج التي أوردها بعض الباحثين أمثال، جيل كيبل وأريك ديفيز، من أن البرنامج الإسلامي قد نشأ بسبب انحدار الوضع الاقتصادي لأعضاء الجماعات، تعبر عن تأثر برؤية والزر للبيوريتانية كاستجابة لفوضى اجتماعية واقتصادية ومحاولة إسقاط هذه الرؤية على حالة الحركات الإسلامية، خاصة أن الوضع الاقتصادي – بعكس التجربة البيوريتانية- كان يتحسن في فترة الخمسينيات والستينيات في مصر مثلاً، التي شهدت تقدماً اقتصادياً وإعادة توزيع مهمين. فالأجور كنسبة من الناتج المحلي الزراعي زادت من عام 1951-1952 إلى 1969-1970 من 17٪ إلى 30٪، كما زادت حصة النسبة الأدنى 60٪ من الأسهم في الاستهلاك المحلي بين عامي 1958-1959 و1974-1975، في المقابل تناقصت نسبة الأشخاص الأعلى دخلاً بين عامي 1950 و1976. فليس من المرجح إذن أن كثيراً من الشباب قد تأثروا بشكل سلبي في عهد عبد الناصر، ثم إن أحوالهم عادت للازدهار في عهد السادات. من هنا يعتقد غولدبرغ أن النظر إلى الحركات الإسلاموية بوصفها تشكلت كرد فعل على ضغط اجتماعي أو اقتصادي، تبقى فكرة أقل دقة ومعقولية – كما سعى هاشمي إلى تأكيد هذا الأمر مراراً وتكرارا- من تفسيرها بوصفها قد جاءت كرد فعل على تزايد مركزية سلطة الدولة.
أما بخصوص مبادئ الجدارة والاستحقاقية (التي بالغ فيها هاشمي) يرى غولدبرغ أن حالة الحرب التي يشعر بها أبناء هذه الجماعات داخل مجتمعهم، قد دفعتهم إلى تبني أشكال جديدة من السلوكيات والسمات في نشاطهم اليومي، وهي سمات أخذت تؤثر بشكل سلبي على العلاقة بين الناشطين داخل هذه الجماعات، إذ أدى تبني «سمتية إسلامية» وفق تعبير رضوان السيد (الاستقامة الكاملة في العقيدة والسلوك واللباس والنظرة إلى الآخر المسلم وغير المسلم) إلى انخراط أبناء هذه الجماعات في مراقبة دائمة لبعضهم بعضا، والإبلاغ عن بعضهم بعضا، وهو اهتمام وجد فيه العلماء شيئاً مناقضاً للإسلام الموروث، ويحول الدين إلى دين «تجسس».
وبذلك نصل من خلال المقارنة بين رؤية هاشمي ورؤية غولدبرغ الأكثر حذراً على مستوى قراءة التشابهات بين الحركة البيوريتانية وواقع الحركات الإسلامية، كيف أن هاشمي بقي وفياً لرؤيته المقارنة الكسولة، دون أن يولي اهتماماً جدياً لإعادة تأويل وقراءة التاريخ والواقع المحلي، ولعل هذا ما جعله يقع في سحر البحث عن مشهد بيوريتاني إسلامي مشتهى.
رابط المقال :