يُقدم الكاتب السعودي بدر الإبراهيم نفسه بوصفه «عروبياً ديموقراطياً» في الأوساط الفكرية والثقافية المحلية، وهو وجه شاب نشط، يوضع في موازاة العديد من الأسماء البارزة في مجال الكتابة والتأليف، إذ صدرت له حتى الآن ثلاثة كتب، أحدها بالمشاركة مع مؤلف آخر.
هو منشغل بتشريح «الطائفية» من منظور يعالج القضية في تكوينها السياسي، إذ إنه لا يعتبر الأزمة أزمة دينية وقعت في حقبة تاريخية ماضية، ولكن خضوع المذهب للتسييس هو ما جعلها أزمة قابلة للانفجار، هذا التوجه الذي يحمله دفعه مع زميله محمد الصادق لتأليف كتاب يلامس هذه الفكرة بالعمق ألا وهو كتاب «الحراك الشيعي في السعودية..
تسييس المذهب ومذهبة السياسة»، وكان كتاباً صادماً للساحة الشيعية قبل غيرها، نظراً لحرصه على «تحطيم» فكرة تسييس المذهب، وأن الأجدر هو تكوين روابط حديثة لبناء كتل وطنية أكثر فاعلية، معتبراً أن الهوية الجامعة هي «المنقذة» لمحاربة الطائفية، وكل الهويات الفرعية التي بدأت تطفو على السطح في منعطف «الربيع العربي» التاريخي.
ويأتي طرح الإبراهيم ضمن مجموعة سعودية شابة ظهرت بقوة في شبكات التواصل الاجتماعي والمدوّنات الإلكترونية أخيراً، تركز في حديثها عن «الهوية العربية»، بوصفها رابطة ثقافية على الإجابة عن سؤال: ما هوية المواطنين الجامعة؟ مؤكدين في الوقت ذاته رفضهم لوجود نظام سياسي قومي محدد كما يظن البعض.
الإبراهيم في حواره مع «الحياة» يجيب عن مجموعة من التساؤلات التي تطرح على هذا التيار الشبابي، الذي بات يلوح في الأفق، فهو يركّز على تفنيد أبرز الحجج تجاه هذا الطرح، كتهميش الجماعة الأهلية، ووجود الأحزاب الدينية ضمن اللعبة الديموقراطية العلمانية، وربط القومية بالاستبداد والأنظمة العسكرية، وعدم «واقعية» وجود أمة عربية، وإشكالية الدولة القطرية، وموضوع الأقليات غير العربية، وغيرها من المواضيع.
> صدر لك بالاشتراك مع الكاتب محمد الصادق في بداية العام كتاب “الحراك الشيعي في السعودية.. تسييس المذهب ومذهبة السياسة” عن “الشبكة العربية للأبحاث والنشر”، وحقق انتشاراً لافتاً في معرض الرياض الدولي للكتاب، نود أن تشرح للقراء ما النظرية التي اعتمدتماها في هذا الكتاب؟
– نظرية الكتاب في عنوانه الفرعي «تسييس المذهب ومذهبة السياسة» تقوم على نقد فكرة تحويل الجماعة المذهبية إلى جماعة سياسية، لأن هذا الأمر ينتج الأزمات الطائفية في مجتمعاتنا.
والمتأمل في واقع الحال في المشرق العربي اليوم يرى كيف أسهم تسييس المذاهب وتعريف الذات كجزء من جماعة مذهبية فاعلة في المجال السياسي ورسم الخطوط الفاصلة سياسياً بين الكتل المذهبية باستخدام عبارات «نحن وهم» في إنتاج صراعات دموية في أكثر من بلد عربي وفي تفتيت الدولة الوطنية وتبديل أولويات الصداقة والعداء بالسماح بكل أنواع التدخلات الخارجية في بلداننا العربية وتضييع البوصلة والتحالف، حتى مع أعداء الأمة في وجه الآخر المذهبي.
أما ما دفعنا إلى تأليف كتاب كهذا في هذا التوقيت، فهو التأكيد على أن توظيف المذاهب في العمل السياسي يخلق المُشكل الطائفي الذي نعاني منه، إذ رصدنا هذا الأمر عبر استعراض لتاريخ الحركات الشيعية المسيّسة والأحداث في الفترة بين 1979-2011، وأعتقد أن كل حديث حول حل الأزمات الطائفية لا يراعي إخراج المسألة المذهبية من العمل السياسي لا فائدة ترجى منه، فالحوارات المذهبية لا تنتج منها سوى محاصصة مذهبية، أما الحوار بين «مواطنين» يخرجون من تعريف أنفسهم بالهوية المذهبية في المجال السياسي، فيمكن أن ينتج مواطنة تعاقدية ودولة وطنية لكل المواطنين، لا لفئة منهم.
الطائفية والمختلف
> تم في الكتاب تقسيم الطائفية إلى نوعين ناعمة وخشنة، فما الذي تعنيه بهذا التقسيم؟ وعلى أي أساس تبنيه؟
– أُعرف الطائفية على أنها تسييس للانتماء المذهبي، وليست خطاب الكراهية المذهبي تجاه المختلف مذهبياً. وعندما يكون هذا الخطاب حاضراً مع تسييس المذهب، نعتبر أننا أمام طائفية خشنة، لكن عدم حضور خطاب الكراهية والتحريض لا يلغي وجود طائفية ناعمة قد تتستر بخطاب التسامح.
لكن هذا لا ينفي عنها تسييسها للمذهب، واعتبارها أفراد المذهب جزءاً من جماعة سياسية مصالحها ترتبط بانتمائها المذهبي، ونظرتها للصراع في شكل مذهبي وتفسيرها للأحداث المختلفة بالعين المذهبية وعلى قاعدة الانتماء المذهبي. فالطائفية بنوعيها الناعمة والخشنة بها اختلاف في التعابير، إذ لا يلغي أساس كل منهما، وهو تسييس الانتماء المذهبي.
> ألا تظن أن نظرية الكتاب تقوم على تهميش الجماعة الأهلية كالقبيلة والمذهب؟
– لا أبداً، فالنظرية تقوم بإعادة الجماعة الأهلية «القبيلة والطائفة» إلى وضعها الطبيعي، بعيداً عن التضخم الذي حصل لها بفعل إقحامها في المجال السياسي، وما ندعو إليه هو أن تنشأ قوى مدنية حديثة على أساس مصالح جديدة، مثل الجمعيات المدنية والنقابات العمالية، لتكون هي الفاعلة في الفضاء العام، فلا تعارض بين إيجاد هوية وطنية جامعة، وتعبير الهويات الفرعية عن نفسها اجتماعياً وثقافياً.
وليست الدعوة إلى إيجاد هوية مشتركة بين مكونات المجتمع تهميشاً للهويات الفرعية أو لإلغائها، لكن المشكلة حين تكون لهذه الهويات الفرعية خصوصية سياسية أو قانونية، مثل ما يحصل في أنظمة المحاصصة في العراق ولبنان، وهذا ما نعتبره احتراباً أهلياً بارداً داخل اللعبة السياسية يُفتت الدولة، ويتحول إلى احتراب ساخن في الشارع في لحظة الأزمة السياسية بين زعماء الطوائف، لذلك يغيب الاستقرار عن أنظمة كهذه، ويستمر الدوران في حلقة مفرغة.
> ألا ترى أنه في ظل أزمة تشكّل الهوية الجامعة محلياً، تكون الجماعة الأهلية قادرة على أن تكون ملجأ آمناً للفرد؟
– حين تغيب الهوية الجامعة والقدرة على إنتاج قوى مدنية حديثة، تصبح الجماعات الأهلية ملجأ الأفراد والمظلة التي يعبّرون بها عن انتمائهم، لكن هذا لا يحل أزمة غياب الهوية الجامعة. وما نشدد عليه في الكتاب أن تسييس المذهب في مواجهة هوية مذهبية غير جامعة يعيد إنتاج الأزمة الطائفية ولا يحلها، وأن الحركات المذهبية في سعيها إلى إنتاج حلول للأزمة الطائفية تقوم بتكريسها إما بخيار المحاصصة أو بخيار الانفصال، وكلا الخيارين يعمِّق الحال الطائفية، لذلك نقول إن خيار الجماعة الأهلية في السياسة لا يحقق النتائج المرجوة، وأنه لا بد من التفكير في خيارات أخرى.
> هناك من يقول إن الأحزاب الدينية في أوروبا، كالحزب المسيحي الألماني مثلاً، تقدم خلطاً بين المذهب والسياسة في نظام ديموقراطي ولا مشكلة في ذلك، فلماذا إذاً يحصر الإشكال فينا نحن من دون غيرنا؟
– هذه مغالطة، فالحزب المسيحي الألماني يعرف نفسه كحزب قومي ضمن الأمة الألمانية وتحت سقف نظامها الديموقراطي، ولا يقدم هوية مناقضة لهوية الدولة. كما أنه لا يقدم تصوراً لنظام «سياسي ديني»، ولا يمثل الجماعة البروتستانتية أو الكاثوليكية ضمن اللعبة السياسية، فهو حزب مفتوح للمواطنين الألمان، وفيه أعضاء من غير المسيحيين، وليس فيه من المسيحية سوى القيم المحافظة اجتماعياً، وهذه القيم تتبناها الأحزاب المحافظة في الأنظمة الديموقراطية الغربية، مثل الحزب الجمهوري في أميركا، فمعارضة الإجهاض والشذوذ الجنسي مثلاً جزء من القيم المحافظة التي تتبناها هذه الأحزاب، لكن هذا لا يعني أنها أحزاب تسيّس المذهب.
وما أود أن أشير إليه هنا أن الاحتجاج بهذه الأحزاب في الحديث عن تسييس المذهب هو احتجاج خاطئ، فهي أحزاب محافظة لا تمثل جماعات دينية بعينها في العمل السياسي، ولا تقدم تصوراً دينياً لشكل النظام السياسي، وهي تقدم «برامج عمل» سياسية لينتخبها الناس على أساسها، لا على أساس هوية دينية مذهبية، وتكتفي بتبني قيم محافظة اجتماعياً في برامجها هذه.
وهناك أحزاب في العالم العربي كحزب العدالة والتنمية في المغرب، وحركة النهضة في تونس، وحزب الوسط المصري تسير في هذا الاتجاه، والمهم أن العنوان الديني ليست له علاقة بكون هذه الأحزاب تُسيِّس المذهب أم لا، فلدينا مثلاً حزب اسمه «التقدمي الاشتراكي» في لبنان، وهو يسيّس المذهب.
الفكرة البديلة
> ما الفكرة البديلة التي يطرحها الكتاب، وهي مناقضة لفكرة مذهبة السياسة وتسييس المذهب؟
– البديل هو إيجاد كتلة وطنية مدنية تعبّر عن نفسها بصفة وطنية لا مذهبية، وتؤكد سيادة القانون والمواطنة، باعتبارها صيغة قانونية تثبت شراكة المواطنين جميعاً في ملكية الأرض والتراب.
فيمكن أن يقدم شباب منتمون إلى مذاهب مختلفة نموذجاً جديداً يتجاوز خطوط التماس بين الطوائف والحوارات المذهبية العقيمة، لأنهم متخففون من عبء الأيديولوجيا المذهبية التي تثقل كاهل رجال الدين، ومتحررون من الحسابات السياسية والجماهيرية المبنية على المنطق الطائفي، والتي تحد من حركة أصحابها.
> يتناول الكتاب بين ثناياه إشكالية غياب الهوية الجامعة، وأنه مشكل رئيس للأزمة الطائفية، فهل ما قدمتماه في الكتاب كصيغة لتلك الهوية، وهي الهوية العربية، قادر على إيجاد حل؟
– الكتاب اقترح الهوية العربية كهوية جامعة وجزء من الحل لمشكلة مذهبة السياسة وتعميم هوية مذهبية ضيقة على المواطنين، وحين أقول الهوية العربية، فأنا أعني الهوية الثقافية العربية كمشترك بين المواطنين، ولا أتحدث عن أيديولوجيا، فلستُ أتحدث عن مبادئ محددة تبني «نظاماً سياسياً قومياً»، بل عن اللغة والإطار الثقافي العربي المشترك كرابطة بين المواطنين.
وهذه الهوية العربية ليست رابطة دم أو عِرق، إنما هي ثقافة تخلق المشترك بين المواطنين، وتقوم بالإجابة عن سؤال: ما هوية المواطنين الجامعة؟ وهذه الهوية نضعها في مقابل الهويات الطائفية، ونواجه بها المشروع الاستعماري الصهيوني على أرضنا العربية في فلسطين، ونسعى من خلالها لتأكيد استقلالنا، ورفضنا للهيمنة الغربية على قرارنا السياسي والاقتصادي، وندعو عبرها لأشكال من الوحدة والتكامل العربيين.
وهنا أشير إلى أنه لا يمكن أن تنشأ وحدة سياسية في الدولة الحديثة – التي هي دولة الأمة – من دون هوية قومية تقيم رابطاً مشتركاً بين المواطنين، وهذا ما يردده منظرو الليبرالية مثل جون ستيوارت ميل، الذي يقول في كتابه عن الحكومة التمثيلية إنه لا يتصور قيام ديموقراطية من دون لغة وإطار ثقافي مشترك.
وكذلك يؤكد ويل كيميلكا أحد أبرز المنظرين الليبراليين المعاصرين، أن الاتفاق على المبادئ السياسية لا يستطيع بمفرده حل معضلة الوحدة الاجتماعية، وأن التضامن على أساس انتماء قومي مشترك هو الذي يعطي للحدود الجغرافية معنى، ويؤكد وجود أمة متمايزة عن الأمم الأخرى خارج هذه الحدود، لذلك تعتمد الديموقراطيات الليبرالية هوية قومية، لتضمن الوحدة بين أفراد المجتمع.
الهوية الثقافية
> لكن الحديث عن القومية يرتبط في أذهان الكثير من الأشخاص بالاستبداد والأنظمة العسكرية التي قمعت الناس في أكثر من بلد عربي، فكيف تتحدث عن الديموقراطية وتربطها بالهوية القومية؟
– كما قلت سابقاً، أنا لا أتحدث عن نظام سياسي قومي، بل عن هوية ثقافية تربط المواطنين وتُعرِّفهم كعرب ضمن النظام الديموقراطي، ثم إن الحديث عن ارتباط التيار القومي تحديداً بالاستبداد لا معنى له، فالتيارات الإسلامية والليبرالية في العالم العربي لم تكن ديموقراطية، لا في أدبياتها وتنظيرها، ولا في الأنظمة التي رفعت شعارات الدين أو الليبرالية، ولذلك مشكلة الاستبداد لا تقتصر على التيار القومي العربي، بل إن هذا التيار هو أكثر من قام بمراجعات فكرية للتصالح مع قيم الديموقراطية.
وكعروبي ديموقراطي أرى أن مفهوم الحرية عند «التيار الجمهوري» يعبر عن تطلعاتي، فالحرية وفق هذا التصور هي ألا يتسلط عليك أحد، وأن تكون متحرراً من أية وصاية، وهذا يعني أنه لا يجوز لمستبد أو لقوة خارجية أن تتسلط عليك متى شاءت، وحتى لو لم يتدخل ويتسلط، فإن مجرد احتفاظه بالقدرة على التسلط هو سلب للحرية، ولا أعني هنا سلطة القانون، لأنها تَدَخُّل مشروع طالما هي معبرة عن إرادة المواطنين، وما دامت تسود على الجميع.
وهذا المفهوم للحرية يعني التمسك بالاستقلال الوطني، ورفض الهيمنة الخارجية، ويعني رفض الاستبداد والتمسك بالديموقراطية، والديموقراطية ليست مجرد صندوق اقتراع، فهي لا تنفصل عن مبادئ ليبرالية أساسية متعلقة بالحريات والحقوق المدنية، كحرية التعبير والاعتقاد وحرية العمل المدني والسياسي وغيرها.
كما لا يمكن للصندوق الانتخابي أن يكون فعالاً من دون تحرير إرادة المواطن من إرغامه بالقوة على أي خيار سياسي، ومن دون تحريرها أيضاً من استعباد المال الذي يُزيِّف إرادة المواطن بشراء صوته مستغلاً حاجته الاقتصادية، وبالتالي فنحن نتحدث عن مواطنة متساوية وحال مدنية حرة وعدالة اجتماعية واستقلال وطني لتستقيم الديموقراطية وتتحقق سيادة الشعب بالكامل.
> يقود هذا إلى الحديث عن تصور العروبيين للأمة والجماعة السياسية، فما الأمة في نظرك؟ وهل يمكن أن يقع تصوركم للأمة في تناقض مع القضايا الوطنية؟
– الأمة السياسية مفهوم حديث يختلف عن مفهوم الجماعة الدينية المنتشرة في كل العالم والتي لا حدود لها. وبحسب بندكت أندرسون، فالأمة هي جماعة سياسية متخيّلة «وليست خيالية». ومعنى متخيّلة أن أفرادها لا يعرفون بعضهم في شكل شخصي، لكنهم يتخيلون انتماءهم لجماعة واحدة بواسطة المشترك الثقافي والتاريخي، وهذه الجماعة لها حدود واضحة، ولها سيادة سياسية على أرضها واستقلال عن غيرها من الأمم.
والعالم مقسّم إلى أمم، لكل منها تاريخها وشخصيتها وحدودها وكيانها السياسي المعبر عنها، وكل أمة سعت لتحقيق سيادتها عبر تقرير مصيرها، وإنشاء كيانها السياسي الخاص. لكن في الحال العربية حصلت عملية تجزئة للأمة الطامحة في تقرير مصيرها وتحقيق سيادتها، ونشأت الدولة القُطرية، وما أعتقده أن الدولة القُطرية العربية تعاني من أزمة هوية، وكي تحل أزمة هويتها لا بد لها من أن تعرف نفسها كجزء من الأمة العربية، وتعبر عن مصالح هذه الأمة في سياساتها، وهنا لا يكون هناك تناقض، فمصالح العرب هي مصالح الدولة القُطرية، وإذا عرفنا من نحن في المجال السياسي، سنستطيع تحديد مصالحنا في شكل جيد.
أمة عربية واحدة
> لكن ألا تظن أن الحديث عن أمة عربية حديث حالم وغير واقعي، وأن الهويات التي تسميها قُطرية هي واقع لا مفر منه، وأن الدولة العربية الواحدة حلم عفا عليه الزمن؟
– هناك فرق بين تقدير ظروف الواقع والاستسلام للواقع برفع شعار «الواقعية»، كما أن الحديث عن مشاريع حالمة ليس منقصة، فأفكار التغيير تبنى على أحلام وطموحات يراد تحقيقها. والواقع يقول إن الهويات القُطرية لم تنجح في تحقيق التماسك الاجتماعي عربيا، واتضح أنها تحيل مباشرة إلى الهويات العشائرية والطائفية والجهوية، وتكرّس الانقسام بين المكونات الاجتماعية بدلاً من إيجاد هوية جامعة لها، ومحاولات العودة إلى هويات «مَتْحَفيَّة» مثل الفرعونية والبابلية والفينيقية باءت بالفشل، وكشفت خواء الهويات القُطرية.
طرح الهوية العربية لمعالجة أزمة الهوية القُطرية هو الواقعي اليوم لتجاوز الصراع الطائفي، وتحقيق التضامن بين الناس في مجتمعاتنا، وتعزيز إمكان التحول الديموقراطي بوجود هوية تصلح كأرضية مشتركة لممارسة الديموقراطية. فلا تصلح حال ديموقراطية من دون هوية جامعة للمواطنين تؤسس لتعددية وانقسام سياسي لا انقسام على أساس الهوية يؤدي إلى صراع أهلي، وما نشهده في العراق ولبنان مثلاً وجود صندوق اقتراع من دون ديموقراطية، لأن هوية الدولة ضائعة والانقسام الطائفي سيد الموقف.
أما الحديث عن دولة عربية واحدة ووحدة عربية اندماجية بين الأقطار، فلا أعتقد أنه مطروح حالياً، بل المطروح هو «اتحاد عربي» يتبنى استراتيجيات مشتركة سياسياً واقتصادياً، ويعبر بالفعل عن أن الدولة القُطرية جزء من الأمة العربية ومصالحها.
لذلك المسألة الآن هي في التأكيد على هوية عربية للدولة القطرية تضمن التماسك الاجتماعي بين المواطنين، ويتم التعبير عنها في الاستراتيجيات والسياسات الداخلية والخارجية كما في الإعلام والتعليم. والواقع يقول إما هوية جامعة للمواطنين، وأنا أراها الأقدر على أن تكون جامعة، وإما الانقسام الأهلي والاحتراب الطائفي.
> وماذا عن الأقليات غير العربية، كالأكراد مثلاً، وهو سؤال يطرح كثيراً عند الحديث عن القومية العربية؟ وهل يرى طرحكم أن لها حقوقاً أم أن الهوية العربية ستصنع إشكالاً معها؟
– في الدولة الحقوق تعطى للمواطنين جميعاً وفق مفهوم المواطنة المتساوية، والحقوق لا تمنح وفق منطق الهوية، وما نتحدث عنه هو أن الهوية العربية تعزز التضامن الاجتماعي بين المواطنين، أو غالبيتهم على الأقل، وللأقليات القومية غير العربية حقها في خصوصية ثقافية، كما أن أفرادها يعاملون كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، وأرى أن حسم هوية الأغلبية القومية يفيد الأقلية القومية، وما يضر بالأقليات القومية هو حال الانقسام الأهلي التي تهدد الاستقرار السياسي.
> عودة لأصل الإشكال في الكتاب.. ترى ما الداعي لتأليف كتاب يتناول الحراك الشيعي في السعودية، إذ إن هناك من اتهمكما بأن القصد منه هو نشر غسيل «البيت الشيعي» إن جازت التسمية، خصوصاً أن بعض القنوات الطائفية خصصت حلقة أو اثنتين للحديث عن الكتاب؟
– فكرة نشر الغسيل فكرة قديمة لا تنتمي إلى الانكشاف المعلوماتي الذي نعيشه اليوم، عدا عن كون هذه الفكرة معوقاً للنقد والمراجعة التاريخية، كما أنها تؤكد الانغلاق بدلاً من فتح الملفات والشفافية في التعاطي مع الماضي والحاضر، والتي أعتقد أنها تفيد الشيعة في ما يضرهم الانغلاق والتقوقع.
أما نقاش القنوات الطائفية للكتاب، فحصل بطريقة مسيئة، لأن من ناقش الكتاب أراد اقتطاع أجزاء منه لا تعكس جوهره، وتوظيفها في التحريض الرخيص على بعض الشخصيات الشيعية، وهؤلاء يتوهمون أنهم عثروا على ما يدينون من خلاله الشيعة، لكنهم يتجاوزون حقيقة إدانة الكتاب لهم، وإدانته لكل الطائفيين الشيعة والسنة، وأن السلفيين الطائفيين بالنسبة لنا خصوم أيضاً، وأن جوهر الكتاب يرفض بالتحديد الأفكار الطائفية التي تبثها هذه القنوات.
أما القول إن الكتاب منح هؤلاء فرصة القيام بهذا التحريض فغير دقيق، لأن كل نص خاضع للتأويل والتوظيف، وإذا كان القرآن الكريم بعظمته توظف آياته من البعض في أعمال قتل وإجرام، فإن هذا يمكن أن يحدث لأي نص بشري، وهو مما لا علاقة للنص به، ولا يتحمل مسؤوليته.
> عاب عليكما بعض من كتب نقداً للكتاب أن مصادركما التي استقيتما منها المعلومات، وعلى إثرها بنيتما نظريتكما، منقوصة وغير معتمدة وأنها بحسب قولهم، قامت على مجهولي الهوية بالنسبة للقارئ، فهل هذا صحيح؟
– سمعت نقداً حول المصادر يتحدث عن أنها أضعفت الكتاب، وللتوضيح فإن الادعاء بأن المصادر الشفهية «حديث مع فلان وفلان» أو المصادر مجهولة الهوية تضعف من قيمة البحث العلمي غير صحيح، وأضرب مثلاً بكتابين صدرا عن دار النشر نفسها التي طبعت الكتاب الشبكة العربية للأبحاث والنشر) عبارة عن رسالتي دكتوراه كتاب «زمن الصحوة» للباحث الفرنسي ستيفان لاكروا، وكتاب «الجهاد في السعودية» للباحث النروجي توماس هيغهامر.
وهما يعتمدان أيضاً على المصادر الشفهية والمجهولة في الكثير من الأحيان، ولم يضعف ذلك من القيمة الأكاديمية لرسالتيهما، وبالطبع لا يمكن تجاوز رواية الأشخاص الذين عايشوا المرحلة في ظل عدم وجود توثيق آخر لها، بل إن هذا مصدر قوة للكتاب، كما أننا لم نقتصر على روايات شفهية، بل عدنا إلى الكتب المؤسِّسَة للحركات الدينية الشيعية ومجلاتها وبعض الأبحاث الغربية عنها.
وهنا أؤكد أننا حاولنا مقابلة عدد كبير ممن عايشوا المرحلة، بعضهم استجاب باسمه الصريح، وبعضهم رفض ذكر اسمه، والبعض رفض حتى مجرد الحديث، ونحن نحترم رغبة الجميع، كما أننا لم نعتمد مصدراً واحداً للمعلومات، لكن في بعض المقاطع ظهر اسم واحد لرواية الحدث، لأن الآخرين ممن أكدوا المعلومة رفضوا ذكر أسمائهم.
الساحة الشيعية
> بسبب الاعتراض على بعض المعلومات التي قدمتماها في الكتاب، يبدو أن الجدل كبير في الساحة الشيعية حول الكتاب بين مؤيد ومعارض، فماذا تقول للمعترضين؟
أقول لهم ليست هناك رواية واحدة للتاريخ، وقد اجتهدنا في تقديم توثيق للحركات الدينية «المسيسة» في الحال الشيعية، والأهم أننا قدمنا رؤية نقدية تستند إلى نظرية وتخلص إلى استنتاجات، وأنا أدعو المعترضين إلى تقديم روايتهم هم ورؤيتهم لإثراء الساحة والمكتبة العربية.
> من المفيد ونحن في هذا الصدد أن تقدم للقارئ نبذة مختصرة عن خريطة جماعات الحراك الشيعي في السعودية من الداخل؟
– الحال الشيعية متنوعة، ومثل حركات الإسلام السياسي السني، فإن حركات الإسلام السياسي الشيعي متنوعة وتعيش صراعاً مع بعضها، والكتاب سلَّط الضوء على الحركة الشيرازية، التي انقسمت لاحقاً إلى تيار المُدَرّسي وتيار صادق الشيرازي وتيار الصفار، ومن ضمنها تنظيم الطلائع الرساليين الذي ظهر في نهاية الستينات.
واستقطب مجموعة من الشيعة السعوديين ضمن حال ثورية أممية، وعلى خط الإمام وهو تيار ولاية الفقيه الذي يؤكد على التمسك بها في خطابه وأدبياته وعلى صراع هذه التيارات مع التيار التقليدي التابع لحوزة النجف، الذي يرفض الانخراط في العمل السياسي المنظم، وتحدث عن تطور رؤيتها والتغييرات التي طرأت عليها والتنافس بينها في كامل الفترة بين 1979 – 2011.
> هناك نقــــــد وجّه للوسط السني في الكتاب، إذ اعتبرتما أن النخب السنية فشلت في إيجاد اندماج وطني، فهــــل هذا صحيح؟
– بالطبع، إذ لم تتخلص الكثير من “النخب السنية” من البعد المذهبي في حركتها. فإضافة إلى الطائفيين من السلفيين الذين يسهمون في إنتاج الأزمة، نجد أن من يقدمون أنفسهم معتدلين إصلاحيين لم يتجاوزوا الهوية المذهبية في طرحهم وفي حساباتهم الجماهيرية، لذلك هم يخشون التلاقي مع الشيعة. كما أن هناك من يقدم اشتراطات دينية أو سياسية للشيعة للتلاقي معهم، وكل هذا يعوق الاندماج الوطني ويعزز عزلة الشيعة، وبالتالي تتحمل النخب السنية جزءاً من مسؤولية الوضع الطائفي.
رابط المقال :
http://www.alhayat.com/article/478589/%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%A8%D8%B1%D8%A7%D9%87%D9%8A%D9%85-%D8%AA%D8%B3%D9%8A%D9%8A%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B0%D9%87%D8%A8-%D9%8A%D9%81%D8%AA%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D9%88%D8%A8%D8%A9-%D9%87%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%84