الأصول السياسية للحرية الدينية
لماذا تمتلك بعض البلدان تنظيمات أكثر حرية تحكم الجماعات الدينية في حين تستبقي بلدان اخري قوانين أكثر صرامة ؟ وهل لتشابه الخلفيات الثقافية والتقاليد الدينية أثر في ذلك ؟ أم أن للمصالح السياسية دورًا في هذا؟
يبرز هذا السؤال في هذا الكتاب بشكل طبيعي وذلك بسبب ماتوصل إليه المؤلف من أن الأنماط المتشابهة بين العلاقات بين المؤسسات الدينية والدولة يمكن رؤيتها في بلاد عديدة وإن كانت مختلفة في تقاليدها الثقافية، وهذا ما دفعه إلى التفكير في الدور الذي تؤديه المصالح السياسية في تنظيم الأديان ، ففي الوقت الذي يعتبر فيه العلماء والدارسون أن الحرية الدينية ناتج من انتشار العلمانية من جهة وانتشار الأفكار الحديثة من جهة ثانية ، يرى أنطوني جيل أن حرية الاختيار الديني ليست إلا تراكمًا لقوانين ونصوص وضعها رجال السياسة بشكل يخدم مصالحهم ويحقق مآربهم.
ولتعزيز رأيه عاد بنا المؤلف إلي أهم رواد الاقتصاد السياسي أدم سميث وطور نظرية أصول الحرية الدينية ، معتبراً ان الحكام يسمحون بالحرية الدينية متي ما عززت بقاءهم السياسي وزادت عوائدهم ، وبلورت الرفاه الاقتصادي في البلد.
كما عزز نظريته بنماذج واستكشافات قام بها واستقاها من أمريكا اللاتينية وأمريكا البريطانية وروسيا ودول البلطيق.
خلفية تاريخية:
يبدأ المؤلف كتابه بسرد الجذور التاريخية للقضية محل النظر في الكتاب وهي قضية: “الحرية الدينية”، من خلال نماذج تاريخية محددة في فرنسا وانجلترا والولايات المتحدة والمكسيك ودول البلطيق.
ففي فرنسا وقع الملك هنري الرابع عام 1598 مرسوم نانت الملكي الذي يقضي يمنح البروتستانت الفرنسيين (الهوجونوت) ضمانًا بألا يضطهدوا بعد ذلك التاريخ بسبب معتقداتهم الدينية المنشقة المخالفة للكاثوليكية. لكن لسوء الحظ دامت هذه الوثيقة قرنًا واحدًا إذ ألغاها الملك لويس الرابع عشر في 1685 مفسحًا المجال أمام موجة جديدة من الاضطهاد الواسع للبروتستانت الفرنسيين أدت إلى هجرة ما يقارب الأربعمائة ألف منهم إلى أجزاء مختلفة من أوروبا ومن المستعمرات البريطانية الأمريكية.
واختلف الحال في انجلترا عنه في فرنسا، إذ أعلن الملك “وليام أوف أورانج” قانون التسامح عام 1689. وكان السبب الذي حدا بالملك وليام لإصدار هذا القانون التمزق الكبير الذي عاناها النسيج الاجتماعي الانجليزي في القرن السابع عشر اثر تعدد الانشقاقات عن الكنيسة الأنغليكانية، بالإضافة إلى وجود الكاثوليك على الجزر البريطانية الأمر الذي أدى إلى زيادة تكلفة القمع والاضطهاد وصولاً إلى ما يشبه الحرب الأهلية. ثمة سبب أخر حدا بالملك الإنجليزي إلى إصدار هذا القانون وهو التنافس الاقتصادي مع هولندا التي كانت قد أظهرت تسامحًا دينيًا كبيرًا لرعاياها عقب استقلالها عام 1579 سمح لها أولاً بالتوسع التجاري والاستعماري عقب تحقيقها استقرارًا داخليًا كبيرًا، وثانيًا أفضى إلى هجرة العقول المفكرة والصناع إليها من انجلترا التي عانت أجواء التمزق الاجتماعي والحروب الدينية، فكان هذا المرسوم محاولة لعلاج هذه الحال.
ثمة مفارقة ساخرة في أن الفرق البروتستانتية المنشقة التي عانت كثيرًا في انجلترا من أجل تطبيق الحريات الدينية، كان بعضها، على الرغم من ذلك مترددًا نوعًا ما في توسيع التسامح ليشمل آخرين في المستعمرات الأمريكية. وقد تصاعد ضغط التعددية الدينية على الجمعيات التشريعية وابتداءً من عام 1776 علقت الجمعية التشريعية الفرجينية في نيو انجلند دفع الرواتب المدعومة بالضريبة إلى الرهبان الأنغليكان، ووضعت الجمعية التشريعية المكانة الرسمية لكنيسة انجلترا في حالة إهمال. فيما بعد أدت سلسلة من الحوارات الجدلية في الجمعية التشريعية الفرجينية أخيرًا إلى مرور لائحة قانون توماس جيفرسون من أجل تأسيس الحرية الدينية، وهو ما ساعد في النهاية على أن يكون نموذجًا للتعديل الأول لدستور الولايات المتحدة.
اختلف وضع الكاثوليك في أمريكا اللاتينية عنه في أمريكا الشمالية، ففي الأولى أدى الغزو الإسباني ومنع وجود ديانات أخرى إلى تسيد الكاثوليك مدة طويلة ومنح رجال الدين الكاثوليك امتيازات كبيرة قضت عليها في النهاية الثورة المكسيكية في 1917.
وتقدم دول البلطيق نموذجًا متميزًا في الحريات الدينية بعد أن عاشت طويلاً تحت الحكم الشيوعي المكرّس لنشر الإلحاد، ففي ليتوانيا سنت الحكومة الجديدة قانونًا للحريات الدينية عام 1995 اعترف ب 9 أديان لها مكانة قانونية خاصة. وفي لاتفيا المجاورة توفر الاعتراف القانوني ل6 أديان تقليدية.
أصول سياسية لا فلسفية
على الرغم من أن المسار نحو الحرية الدينية كان يعتبر في الغالب نموًا متفرعًا من المزيد من “التفكير الحديث” (أي انتصار فلسفة التنوير) على الفكر التراثي، تجادل أطروحة هذا الكتاب أن المصالح أدت دورًا مساويًا في الأهمية إن لم يكن أكثر حسمًا في ضمان التشريع الذي كان يهدف إلى تحرير الجماعات الدينية من الأعباء التي كان يضعها الاضطهاد على كاهلها. والمصالح الفاعلة في تقرير طبيعة الحرية الدينية تأتي من كلا الجانبين؛ الفاعلون الدينيون (قادة الكنيسة ورجال الدين ورعايا الأبرشيات) والحكام العلمانيين (المشرعين والرؤساء والمستبدين). ويُجادل المؤلف بأن المجتمعات التي تحتوي على أكثرية دينية ظاهرة يميل رؤساء أكثريتها الدينية إلى أوضاع دينية تُحابى فيها الأكثرية على حساب الأقلية، وأن المجتمعات التي تحتوي طوائف متعادلة القوة بدرجة كبيرة يكون الميل فيها إلى الانفتاح وترسيخ الحريات الدينية. وعلى الجانب الأخر تتمثل مصالح السياسيين الأساسية في استصدار القوانين المتعلقة بالحريات الدينية تضييقًا أو توسيعًا ببقائهم السياسي الخاص، أي بإمكانية إعادة انتخابهم من عدمها، أو الحاجة إلى رفع الإيرادات الحكومية، أو نمو الاقتصاد.
قياس الحرية الدينية
يقصد المؤلف بالحرية الدينية حرية العبادة وفقًا للضمير وتنشية الأطفال على إيمان والديهم وحرية الفرد في أن يغير دينه، وحرية الوعظ والتعليم والنشر والقيام بنشاطات تبشيرية والحرية في القانون مع الآخرين، وحرية اكتساب الملكية والاحتفاظ بها من أجل هذه الأغراض. ولقياس هذه الحريات يرى المؤلف أن التعامل الأمثل معها يكون بتصورها كمسألة تنظيم حكومي وقانوني أكثر منها مسألة فكرية جدلية نظرية. وتساعد تلك النظرة في استخلاص عدد من معايير التقييم التي يمكن تطبيقها على المجتمعات لقياس مدى وجود الحرية الدينية فيها من عدمه وهذه المقاييس هي:
*القيود السلبية على الحرية الدينية: أي وجود قيود سلبية على الحرية الدينية من قبيل منع رجال دين معين من العيش في بلد ما أو منع دخولهم إليها، وتعقيد متطلبات التسجيل القانوني لفرق دينية جديدة وتأسيس كنائس أو دور عبادة لها.
*التأييد الإيجابي لفرق دينية مخصوصة: أي أعمال الدعم الرسمي التي تدل على تأييد ضمني لفرق دينية مخصوصة من مثل تقديم إعانة مالية أو إعانة عامة في الترويج للدين.
*فصل الكنيسة عن الدولة: يرى المؤلف أن عبارة “فصل الكنيسة عن الدولة” هي عبارة مضللة أو لها وجهان، فقد يكون هذا الفصل من جهة عنيفًا إلى درجة كونه تقييدًا للحرية الدينية كما حدث في كنائس الاتحاد السوفييتي، ومن جانب أخر قد يعني تساويًا في درجة الكنائس وأتباعها أمام القانون وهو المعنى الإيجابي الذي قصد إليه.
يهدف هذا الكتاب إلى اقتراح نظرية استنباط، نظرية بشأن الأصول السياسية للحرية الدينية التي تدمج دور القدرة الإنسانية من خلال نظرية الاختيار العقلي، وتضع النظرية المصالح في مقابل الأفكار (أو الثقافة) في مركز التحليل من دون إنكار العوامل المتعلقة بتكوين الأفكار مثل القيم الأيديولوجيات، وهو لذلك يكتسب أهميته في راهن عربي معاصر أهلك الاستخدام السياسي للدين فيه الدين والسياسة معًا، وقضى على أي إمكانية لتأسيس حرية دينية عربية.