لم يحظَ أي فقيه إسلامي باهتمام الباحثين في الشرق والغرب كما توافر لمؤسس المذهب الحنبلي أحمد بن حنبل، وعلى رغم أن غالبية الدراسات طاولت العلاقة الأيديولوجية بين ابن حنبل والسلفية الجهادية، إلّا أن القليل منها درس مفاصل السيرة الحنبلية من ناحية التقشف المعتدل والموقف من علم القياس.
في أطروحته”أحمد بن حنبل وتشكُّل المذهب الحنبلي”الورع في موقع السلطة”يرصد نيمرود هورويتز ثلاث قضايا أساسية: السيرة الذاتية للإمام أحمد وطابعها الزُهدي، ودلالات المحنة، وتبلور المذهب الحنبلي.
الأطروحة كانت في الأساس رسالة لنيل شهادة الدكتوراه نُقلت إلى اللغة العربية تعريب غسان علم الدين، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2011 وراجعها وقدّم لها الدكتور رضوان السيد.
يكشف الكاتب عن معلومات جديدة ويعالج أكثر من إشكالية في دراسته العلمية، أهمها المدلول التاريخي والسياسي لمحنة ابن حنبل الشهيرة زمن الخليفة المأمون المنتصر للمتكلمين. وأهمية الأفكار التي تطرق إليها هورويتز تكمن في مفاصل بحثية مختلفة، سواء في كيفية تعقب سيرة الإمام أحمد، الورع والزاهد، أم في النتائج التى توصل إليها والتي تبدو نوعية لسبيين: الأول، تفادي الدخول في الأحكام الإسقاطية عبر تظهير حياة ابن حنبل وبعض آرائه الفقهية والعقدية”والثاني، الظروف التي أنتجت المحنة والتي تفيد بتخوف المأمون من صعود نفوذ المحدّثين لدى الجمهور.
يسلط هورويتز الضوء على سيرة الإمام أحمد، من خلال ثلاثة اتجاهات، أولها البحث عن مكوّنات تميّزه الديني”ثانيها تأسيسه حلقة من التلامذة”وثالثها مقاومته من خلال المحنة. وقبل تحديده لأهم آراء ابن حنبل في الفقه وموقفه من القياس، يعرض النظريات التي طاولت تشكل المذهب الحنبلي من بينها خلاصات جوزيف شاخت، الذي اعتبر أن انبثاق الحنبلية أتى من عدم رضا أهل الحديث عن المنظومة الفقهية التي طورها الشافعي معاصر الإمام أحمد، إضافة إلى ما توصل إليه أرا لابيدوس الذي اعتبر أن العلماء الحنابلة امتلكوا رؤية”تجرد الحكام من أيّ سلطة روحية”وإلى حد ما تقترب خلاصة لابيدوس من النتيجة التي ساقها رضوان السيد في التقديم إذ ربط جذور المحنة بخشية الخليفة من صعود سلطة أهل الحديث في الدين”والمأمون كان يعتبر نفسه حارس للدنيا وللدين”.
يطرح الكاتب إشكالية مهمة، لماذا ركز المأمون على قضية خلق القرآن التي شكلت المنطلق الأساس للمحنة الحنبلية والتي أدت إلى خروج الإمام أحمد منها منتصراً مع أهل الحديث؟ يتوصل هورويتز إلى النتيجة الآتية:”لقد رأى المأمون أن المتكلمين تمّ استثناؤهم من المؤسسة الدينية فقرر تغيير سياسة الخلافة التقليدية والتدخل في السياسات الداخلية للعلماء، فكانت المحنة فعل انتقام لتاريخ طويل من الملاحقات”التي تعرض لها علماء الكلام.
ولعل الأهم في سيرة الإمام أحمد تتلمذه على يد خليط من المعلمين، وهؤلاء كما خلص هورويتز، ما كانوا متجانسين من ناحية الإطار العقدي، هناك رئيس دعاة المرجئة ومحدث بارز من أوائل أهل الحديث، وحشدٌ من أهل الرأي. ثمة مؤشر مهم في علاقة ابن حنبل بالإمام الشافعي، فإلى جانب الفرضيات التي يسوقها البعض حول خروج الحنبلية من الشافعية، على اعتبار أن أئمة المذهب الحنبلي كانوا حذرين من أخذ الحكم بالرأي، إلّا أن الإمام أحمد لم يقطع مع الرأي إذ كان يفضل عدم الإفصاح عن ذلك على رغم اعتماده في شكل واضح على القرآن والسنّة مع تفضيله موضعة الجدال في الدين في مجال الرأي الشخصي، ما أدى إلى ازدواجية بين”مقولة النص والرأي الشخصي”وهذا الأمر ظهر في شكل واضح خلال الجدال الذي دار بين الإمام أحمد والمحققين في فترة المحنة.
المهم بالنسبة إلى متابعي ابن حنبل من الأكاديميين والباحثين، حياة التقشف التي عاشها الإمام من ناحية التصرفات الشخصية، والتي يدرجها الكاتب تحت تسمية”الزهد المعتدل”. النزعة الطهورية التي اختارها لم تتخذ بعداً ذاتياً وحسب، بل طالت الممارسات الاجتماعية والمعايير الأخلاقية، ما أدى إلى وقوع صدام ثنائي بين ابن حنبل وعائلته من جهة، لا سيما ابنه الأكبر، وبينه وبين السلطة التي حاولت جذبه بالمال من دون جدوى بعد مرحلة المحنة وقبلها.
تشكُّل المذهب الحنبلي مرّ بمحطات قبل تبلوره وتميز بالتحول العقدي البطيء، ولكن الكاتب لا يحدد لنا في شكل واضح العوامل الموضوعية والتاريخية والاعتقادية التي أدت نشوء الحنبلية خصوصاً ما يتعلق بالإطار الفقهي وخلاصات ابن حنبل التي صاغها في كتبه.
الإشكالية الثانية التي يدرسها هورويتز: هل كان أحمد بن حنبل يستخدم القياس أم العكس؟ إلى حد ما يتبنى الكاتب وجهة نظر المستشرق الفرنسي هنري لاوست الذي قال إن ابن حنبل”لم بنبذ القياس وإنما لم يستسِغْ كلياً قيمته باعتباره وسيلة في النظام القضائي وفي اكتشاف الحكم الشرعي”. ولكن لماذا افترق الحنابلة عن الشافعية؟ لا يتوانى هورويتز عن توضيح الصعوبات المنهجية التي تعرض لها في الإجابة على هذا التساؤل، وتوصل إلى مهماز أولي مفاده أن”الخلاف بين الجماعتين ليس مبدئياً بل هو لفظي وبالتالي لا يؤخذ هذا التمايز اللفظي مسوغاً لتشكيل كل منهما مدرسته الفقهية المستقلة”. لكن الأجوبة الأولية التي خرج بها الكاتب لا تساعدنا على تحديد حدود الاختلاف والتلاقي الفقهي بين المذهبين الحنبلي والشافعي، فما الذي أنتج هذا الافتراق؟ وهل علاقة ابن حنبل بالإمام الشافعي القريب من السلطة ساهمت من ضمن العوامل الأخرى في الانفصال الجنيني إذا جاز التعبير؟ المحنة التي خبرها ابن حنبل تحديداً خلال جلسات التحقيق التي قادها بعد وفاة المأمون ابن أبي دُؤاد،، أظهرت معطى نوعياً: تمسك الإمام أحمد بمرجعية القرآن والسنّة خلال الاستجواب وعدم إجابته عن بعض الأسئلة التي تحرجه، فرد على سائليه بالقول:”لست من أهل الكلام أو الجدل”وذلك من باب ترك المناقشات في مسائل العقيدة.
أطروحة نيمرود هورويتز تكتسب أهميتها من مؤشرات عدة أبرزها قدرة المؤلف على الابتعاد عن السياقات الأيديولوجية. لكن ثغرة أساسية لم يجب عنها في الشكل المطلوب، وتتمثل في الخصائص الفقهية للمذهب الحنبلي من جهة وعدم كشفه في شكل مباشر وواضح عن أسباب الافتراق بين الحنابلة والشافعية.
رابط المقال :
http://www.alhayat.com/article/1496345/%D8%A3%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D8%A8%D9%86-%D8%AD%D9%86%D8%A8%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%B1%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B1%D8%B9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AD%D9%86%D8%A9-nbsp