من الظلم والتجني نعت الثقافة العربية بالحمق والقصور واعتبارها خلواً من الحكمة التي هي، في عرف المتحاملين، غريبة عن العرب ولم يحملها اليهم إلا المقرّبون من الأعاجم. فخزانة التراث العربي فيها حدائق من الحكم قلّ ان تجد نظيراً لها في ثقافات أخرى، وإذا عُدّت مخطوطاتها لفاقت مخطوطات جميع الشعوب التي تقدمت على العرب، وتصل الى مليون مخطوط. ولو وُفيّت الحكمة العربية حقها لكانت في مصاف حكم بقية الأمم معنى ولفظاً وبياناً. وقد شهدت تجارب العرب الماضية على أريحية حضارتهم وعلى تسامحهم، إلا أن مشكلتهم اليوم أنهم ما استطاعوا تثمير تراثهم العظيم وعولمته بحيث يصير ملكاً للناس أجمعين.
من هذا المنطلق جهد محمد الشيخ في”كتاب الحكمة العربية، دليل التراث العربي الى العالمية”الشبكة العربية للأبحاث والنشر 2008، للإضاءة على ما في تراثنا العربي من الحكمة قبل أن تستمكن منه يد النسيان في ظل اتساع المسافة بيننا وبينه وغربتنا عنه. فلا أقل، يقول المؤلف، من أن نوفي هذا التراث الجليل بعض ما له من حق، فإننا الأجدر بذلك والأحق. وليس المقصود الانكفاء على التراث كيف نجعل أمتنا أمة تراثية ونصير كائنات تراثية، بل الإقدام على تثمير الجانب الحي في تراثنا الذي يتضمن حكمة لا كفاء لها، تجعله يحتل مكانة متميزة في التراث العالمي ويكون عدة وعوناً لنا في مواجهة العولمة الثقافية العاتية. ويجب أن يتوجه الاهتمام، لا الى التراث الذي استهلك بحثاً، بل الى التراث المنسي والمتهم والمهمّش، وانتقاء منه ما يمكن أن يصير تراثنا عالمياً في مواضيع شأن الانسان والغير والصداقة والهوية والغربة والوحدة والكتابة والموت، من أجل تشويق القارئ الى قراءة كتب التراث ومصالحته مع هذه الكتب التي تكاد تصير مهجورة.
خاض حكماء العرب في مفهوم الانسان. هل اشتق اسمه من النسيان أو من الأنس؟ وبِمَ كان انساناً؟ وما وجه انسانيته؟ في هذا رأى أبو حيان التوحيدي أن الانسان مؤلّف من اخلاط ومركّب من طبائع ومجموع من متضادات، لا هو ملاك ولا هو بهيمة وإنما هو كائن بيني له من النقائص قدر ما له من الكمالات.
ورأى ابن عربي ان الانسان مفتاح كون الوجود ومجلى الكينونة وهو غاية العالم وتاجه ومختصره بل هو”روح العالم”إذا فارقه مات العالم. ولكنه يغدو أذل المخلوقات إن هو عبد نفسه أو عبد غيره من الكائنات. أما الراغب الأصفهاني فرأى ان الله جمع في الإنسان قوى بسائط العالم ومركّباته وروحانياته وجسمانياته ومبدعاته ومكوّناته، وبهذا فالإنسان هو أفضل موجود شرط أن يراعي ما به صار انساناً، وهو”العلم الحق والعمل المحكم”. ونبّه ابن مسكويه الى أن للانسان مرتبة ليست لبقية الكائنات بقوة العقل التي وهبه إياها الله وفَضُل بها على سائر الحيوان. ومن الطريف أن حديث حكماء العرب عن”الانسان”اتسم بالذكورة الطاغية، إذ الانسان بالاولى”الرجل الذكر”. إلا أن أنظار الحكماء العرب في شأن الانسان بلغت حد النزعة الانسانية، فذهب ابن عربي الى أن واجب الناس أن يكونوا كلّهم متحابين متوادين فـ”محب الكمال يجب أن يكون محباً لجميع الناس، متحنناً عليهم، رؤوفاً بهم”.
وبحث حكماء العرب في”الغير”. هل نقصيه أم ندنيه؟ نسامحه أم نقاتله؟ وفي هذا نجد في التراث العربي دعوة الى الاحسان الى الناس أياً كانوا. وقد تجلّى ذلك في قول الإمام علي الى والي مصر”أشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة واللطف بهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين وإما نظيرك في الخلق”. وعُومِل”الغير غير البشري”كذلك على نحو حضاري يتلاءم مع معاملة”الغير البشري”حيث دعا حكماء العرب الى الرأفة بالمخلوقات جميعاً، والى الاحسان الى غير الناس، أكانوا جمادات أو نباتات أو حيوانات.
وخاض حكماء العرب في”الصداقة”و”الصديق”وألّفوا في أمرهما التآليف العديدة، فقال أحدهم”الصديق هو أنت بالنفس إلا أنه غيرك بالشخص”. وقال آخر”الصديق أنت هو، وهو أنت، إلا أنكما جسمان بينكما روح”. وإن تباينت مواقف حكماء العرب في أمر الصديق، إلا أن أغلبهم قال بمبدأ المؤالفة، وأن من شأن الصداقة الحقة ألا تلغي الحد الذي بين الصديق وصديقه.
وفي موقف حكماء العرب من”الغربة”رأى المؤلف أن”الغريب”أنتبذ في كل الثقافات البشرية وما كانت الثقافة العربية ببدع من ذلك. إلا أن للعرب تقاليد في الاحسان الى الغرباء. فمنهم من لا يؤوي إلا الغرباء ومنهم من لا يعلّم إلا الغرباء ومنهم من لا يكرّم إلا الأدباء الغرباء. وقد ميّز العرب بين الغربة عن الوطن و”الغربة عن الزمان”، و”الغربة عن النفس”في عرف المتصوفة.
وللحكماء العرب آراء متناقضة في”الانفراد”أو”العزلة”فمنهم من آثر الجماعة ومنهم آنس الى الوحدة، وقد عبروا عنها تعابير متنوعة كالاختلاء والانفراد والتفرد والانعزال والانزواء والانقطاع وغيرها. وإذ رأى بعضهم أن”التفرد يبطل الانسانية”رأى آخر أن”رُبّ وحشة أنفع من أنيس ووحدة أمتع من جليس”.
وفي أمر”الحيرة”رأى المؤلف أن الغالب على الثقافة العربية الاسلامية طلب الإيقان والريبة من السؤال، وأن من السلامة السكون الى مألوف المعارف، وقد اتهم المفكرون العرب”اللاأدويون”في دينهم على أساس من حار وقع في التيه. وما أكثر من حكماء العرب من كتب كتاب اليقين، وما أقل من كتب منهم كتاب الحيرة. بيد أن هناك من مدح الشك وهم الأقلون، ولم تسلم الثقافة العربية من الحيرة، فرأى ابن عربي أنه”ما دام الفكر موجوداً، فمن المحال أن يطمئن ويسكن”وعبر أبو العلاء المعري في أشعاره عن الحيرة والشك والتساؤل. إلا أن السؤال، سواء سؤال الحيرة الميتافيزيقية أو سؤال الحيرة الوجودية ظل في ثقافتنا موضع شبهة وتهمة، لكن هذا لم يمنع تعلّق بعض مفكري الاسلام بفسحة السؤال، حيث ذهب ابن الهيثم الى أن الواجب على الناظر في كتب العلوم أن يجعل من نفسه خصماً لكل ما ينظر فيه، ويتهم أيضاً نفسه عند خصامه. فإذا سلك هذه الطريقة انكشفت له الحقائق.
وكانت الثقافة العربية، خلافاً لما ظنّ البعض، ثقافة احتفاء بالحواس، وما كانت ثقافة العقل وحده ولا ثقافة النقل وحده. ولطالما وقف حكماء العرب عند الحواس الخمس وملذاتها، وأعجبوا بعملها وعدوّها من المعجزات الشاهدة على عظمة الخلق وجلال الخالق، وقد ألفوا فيها تآليف شتى، ووضعوا لها آداباً وسلوكاً. كما أبدع العرب في فنون الترويح عن النفس وانتشاء الحواس وبنوا لها ملاجئ ومآلف في البساتين الغناء، وقلدوا في احتفالاتهم غيرهم من الشعوب.
وللقراءة والكتابة موقع مميز في ثقافتنا العربية. فالحكيم العربي عاشق للعلم، يطلبه لا لشيء سواه، نديمه كتابه، لا تذهب ساعة من عمره إلا في اشتغال أو نسخ أو مطالعة، حتى في أصعب الظروف وأسوئها. يقرأ في المساجد وفي أيام الأعياد وفي أيام الفتن والمرض وفي أيام الشيخوخة، وحتى في أيام النزه والسفر، وفي الحر الشديد، بل يسافر بعيداً من أجل كتاب. وقد فتح حكماء العرب خزائن كتبهم أحياناً للعامة، واتخذوا من الحوانيت محلاً للقراءة، وصرف بعضهم أمواله على استنساخ الكتب وتعليم فقراء طلبة العلم. وبلغ حب الكتاب بالعرب أن أقاموا له أسواقاً، وأنشأ بعض حكمائهم في حب المعرفة نصوصاً فريدة. وما قرأ حكماء العرب وحدهم بل قرأ حتى ملوكهم، فكم من ملك لم تشغله السياسة عن المطالعة، ومن هؤلاء معاوية الذي كان يقضي أكثر ليله في المطالعة.
وعلى الرغم من أن التقليد العربي شاهد على مواقف مانعة للمرأة من الكتابة، فإن كتب التراجم تذكر مؤلفات لنساء، لكن ندر أن نجد كتاباً تراثياً محققاً ألفته امرأة، فجلّ هذه الأعمال ضاع ولم يكد يحفظ منها شيء.
في نظرة نقدية ختامية يمكن القول إن الكتاب على الرغم مما شابه من استطراد ولغة فجّة أحياناً، يعتبر انجازاً متقدماً في الكشف عما في تراثنا العربي من غنى ثقافي وأصالة حضارية ونزعة انسانية. وقد فتح المؤلف آفاقاً واسعة على خزائن هذا التراث وابداعاته، بما يدحض حجج المتطاولين عليه والذين يزعمون عقمه وتخلّّفه، فوصفنا، منطلقاً من اضطلاع واسع وشامل على خفاياه ومكنوناته، وجهاً لوجه ازاء صور مشرقة وناصعة منه تشدنا اليه وتعيد وصلنا بجانبه الحي والانساني المهدد بالضياع والنسيان.
رابط المقال :
http://www.alhayat.com/article/1391422/%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%83%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D9%84%D8%A8%D8%A7%D8%AD%D8%AB-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%BA%D8%B1%D8%A8%D9%8A-%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%8A%D8%AE-%D8%AA%D9%84%D9%83-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%AC%D9%88%D9%87-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B4%D8%B1%D9%82%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B6%D8%A7%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9-nbsp