هل كان مسار الحداثة الغربية هو المسار الوحيد للحداثة؟ ألم يكن في الإمكان بزوغ «حداثات أخرى» في عوالم وحضارات أخرى تتوج مسيرة العقلانية والكفاءة؟
هذا السؤال كفيل بتفجير حدود علم الاجتماع الكلاسيكي الذي جعل محوره نقد الحداثة الغربية والمجتمع الحديث؛ لذا فإن التساؤل عن كيفية تفاعل العوالم الأخرى مع هذه الحداثة قبولاً وتوترًا، نقدًا ونقضًا يتحوّل إلى مهمة تحتاج إلى أدوات أكثر تطورًا، وعُدّة مفاهيمية أكثر رحابة واتساعًا، ومرونة وانفتاحًا على كل فكر أو رأي يهيْئ لها القيام بهذه المهمة.
انطلاقًا من هذا السؤال حاول الكاتب والباحث الجرئ أرماندو سلفاتوري المتخصص في فلسفة التواصل وعلم اجتماع وأنثروبولوجيا الإسلام تأسيس منهج خاص تجلى في ثلاثة من مؤلفاته أنشأ فيها عُدة مفاهيمية، وأصّل لأدوات، وأقام بدور تنظيري في محاولة لفهم ديناميات السلطة والمجتمع والمعرفة في العالم الإسلامي، أو ما يحب أن يطلق عليه «المعمورة الإسلامية»
أهم هذه الكتب، والذي نعرض له في هذا المقال، الذي جاء بعنوان «سوسيولوجيا الإسلام: المعرفة والسلطة والمدنية» الصادر حديثًا مترجمًا عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر، والتي اضطلع بها الباحث والمترجم ربيع وهبة في بداية هذا العام (2017).
لا يعد هذا الكتاب مجرد نظرة سطحية يمكن قراءته بصورة سريعة دون تأمل ورويّة، بل هو سِفر مركز وكثيف يحاور فيه الكاتب بحسب قوله «فئات طلاب الجامعة والخريجين المتخصصين والاكتشافات والنقاشات ما بين التخصصات المعرفية المختلفة مع أكاديميين زملاء.
وقد يجد النشطاء الاجتماعيون والمحللون السياسيون أيضًا إلهامًا فيما يقترحه الكتاب من سوسيولوجيا الإسلام بغية تيسير فهم الإسلام كقوة طويلة الأمد توفر رابطًا اجتماعياً ثقافيًا ولحمة مؤسسية لتنوع من العلاقات والترتيبات»
مشروع سوسيولوجيا الإسلام
تشكل «سوسيولوجيا الإسلام» مجالاً جديدًا يجمع بين تخصصات عديدة مثل التاريخ وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا والديانات المقارنة والحضارات المقارنة والدراسات الإسلامية، ويقوم هذا المجال بشكل رئيس على الجهد الذي أنجزه هودجسون في ثلاثيته البارزة «مغامرة الإسلام» (أعلنت الشبكة العربية عن نيتها لترجمته)، وكذلك عمل برايان إس ترنر الرائد في التعليق على هذه الثلاثية وكتابه المهم المسمى «فيبر والإسلام» وينضم إليهم سالفاتوري بكتابه الذي بين يدينا.
يحاول سالفاتوري تأسيس مشروعه في سوسيولوجيا الإسلام عبر إدارة الحوار وتحديد المسافات مع ثلاث مدارس رئيسية هي: مدرسة علم الاجتماع الكلاسيكية التي تبدأ من ماكس فيبر الذي اهتم سلفاتوري بالتحديد بنقد نظرياته عن المجتمع المدني والكاريزما وتشكل المؤسسات والاستثنائية الغربية، مرورًا بـدوركهايم وجورج سيميل اللذين تعاملا بشغف مع الديانات العابرة للحدود المزعومة بين التقاليد والحداثة.
هنا يدافع سالفاتوري عن وجهة النظر التي يتبناها كل منهما بأن الدين في المجتمعات الحديثة أصبح مصدرًا لا غنى عنه في أنماط العقلانية الحديثة نفسها. حتى دون أي تدخل لأخلاقيات دينية من النوع الفيبري (بروتستانتي أو غيره).
إن كانت مدرسة علم الاجتماع تمد سوسيولوجيا الإسلام بأدواتها ومفاهيمها التحليلية فإن سلفاتوري يؤسّس مشروعه على نفس الأرضية التي انطلقت منها مدرسة النقد ما بعد الكولونيالي، وهي نظرية الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو حول العلاقة المتبادلة أو الدائرة المغلقة بين السلطة والمعرفة، وكيف يشكل كل منهما الآخر.
تفترق سوسيولوجيا الإسلام عن النقد ما بعد الكولونيالي في استخدام هذه النظرية، حيث ينطلق منها إدوارد سعيد في كتابه «الاستشراق» لبيان السلطة الكامنة خلف الخطاب الاستشراقي أو الكولونيالي، أي في نقد الخطاب الغربي نفسه وإعادة تشكيله، بينما يضطلع سالفاتوري ببيان ما يسميه مصفوفات وديناميات تُشكّل السلطة والمعرفة التي أسهمت في تشكيل أنماط «المدنية» في المعمورة الإسلامية نفسها.
المدرسة الثالثة: التي يميز مشروع سوسيولوجيا الإسلام نفسه عنها بل ويضع نفسه مقابلها، هي مدرسة الاستشراق. يرى سالفاتوري أن هذه المدرسة وقعت في فخ ما يسميه بـ«الجوهر» أي اعتبار الإسلام جوهرًا ثابتًا يمكنُ الاستدلال عليه ومحاكمته أو اعتباره نقيضًا للحداثة الغربية، وبهذا يتم تجاهل ديناميات الحركة الاجتماعية والسياسية، وأنماط التبدل والتنوع في المدنية الإسلامية.
بين المجتمع المدني والعمران
تُنشئ المعرفة سلطة وتصنع السلطة معرفة في دوائر شبه مغلقة، تنتج عنها أنماط مختلفة من المدنية، يورد سالفاتوري عبر كتابه عدة تعريفات لمصطلح المدنية، يمكننا أن نجملها في: أنها جملة الشروط التي يتقاسمها الفاعلون الاجتماعيون في تعابير مشتركة أو على الأقل متداخلة بما يهيئ المجال لـضبط وتيرة الصراعات الاجتماعية الكامنة.
يرى سالفاتوري أنه بالرغم من «المدنية» التي تبدو ضعيفة للتماسك الاجتماعي، إلا أنها بالتحديد تعد من العوامل الأساسية لنسيج المجتمع سواء التقليدي أو الحديث
يرى سالفاتوري أنه بالرغم من «المدنية» التي تبدو ضعيفة للتماسك الاجتماعي؛ أضعف ربما من الرابطة التي رآها دوركهايم في تقسيم العمل، أو رآها ماركس منبعثة من الوعي الطبقي إلا أن هذه «المدنية» بالتحديد تعد من العوامل الأساسية لنسيج المجتمع سواء التقليدي أو الحديث.
لتسليط الضوء على هذه النقطة يلجأ سالفاتوري إلى المقابلة بين المدنية في المعمورة الإسلامية والتي يطلق عليها ابن خلدون «العمران» مقابل مفهوم «المجتمع المدني» الإشكالي في المجتمعات الغربية.
يرى سالفاتوري أن المجتمع المدني، وهو مجموع المنظّمات والفاعلين والحركات التي تقفُ بين المواطن والدولة، وتسعى لتحقيق مصلحة أفراد المجتمع، ليس أكثر من «وعد بمجتمع مدني»؛ لأن هذا المجتمع غير قابل للتحقق في المجتمع العقلاني بحسب تصور فيبر. يرى سالفاتوري أن المصلحة الشخصية لا تشكل رابطة اجتماعية تجعل هذا المجتمع قابلاً للتماسك لذا لابد من وجود رابطة أخرى.
وهنا يلجأ الكاتب إلى مقاربتين تفسيريتين؛ الأولى، هي مدرسة الفلسفة الاسكتلندية ومقاربة آدم سميث الذي يرى أن الرابطة التي تدفع هذا المجتمع المدني للتماسك هي نوع من «الحس الأخلاقي» الذي لا يرقى لدرجة القواعد الأخلاقية. المقاربة الثانية، هي رؤية فوكو الذي يرى أن المجتمع المدني يقوم على فلسفة «مراقبة الجميع ضد الجميع» فيما يشبه منافسة خفية على السلطة ومحاولة لـتحجيمها في نفس الوقت.
في المقابل يستلهم سالفاتوري فكرة العمران التي أسس لها ابن خلدون لفهم المدنية الإسلامية التي تقوم بشكل رئيس – بحسب ابن خلدون – على مركزية العصبية القبلية.
يحاول الكاتب كسر ما سماه بـ«الحلقة الحلزونية الخلدونية» عبر التعمّق إلى ما وراء العصبية القبَلية والكشف عن الديناميات الماقبل – مؤسسية التي سمحت للإسلام في الفترات الوسيطة ما بعد الغزو المغولي بالتوسّع الهائل الذي بلغ بحسب وصف صاحب كتاب «مغامرة الإسلام» ثلاثة أضعاف حجمه السابق فتجاوز الصحراء الكبرى، وأسّس ممالك في أفريقيا جنوب الصحراء، ووصل إلى شرق أوروبا وجنوب شرقي آسيا والهند، وملأ أرجاء العالم الأفرو- أورومتوسطي.
يتبنى سالفاتوري وجهة النظر القائلة بأن الإسلام تمكن من تأسيس حضارته عبر «تفعيل العوامل الحضارية الكامنة في الحوض الإيراني – السامي»؛ أي أن الإسلام بالأساس قوة فوق حضارية جامعة متجاوزة للزمان والمكان. لكن تأثيره الأبرز لم يظهر إلا بعد انهيار السلطة المؤسسة على النظام الكسروي وتفتت مركزية الخلافة.
حينها تحررت القوى والطاقات المتجاوزة للمؤسسية لتملأ الفضاء الأفرو-أوراسي عبر مصفوفات مختلفة من معادلة السلطة – المعرفة. لهذا يعتبر الكاتب أن هذه الفترات الوسيطة هي أهم فترات «المعمورة الإسلامية» والأكثر تعبيرًا عن روحها.
يركز الكاتب ضمن مجموعة هذه المصفوفات على الطرق الصوفية تحديدًا ويرى أنها تمثل أهم هذه المصفوفات وأقدرها على تجاوز المحلية وإنشاء معادلات السلطة والمعرفة، وهي القوى بالتحديد التي صبغت روح الفترة الوسيطة في المعمورة الإسلامية، فأنشأت الممالك والدول واضطلعت بمهام الدعوة والتجارة والتأسيس للمدنية الإسلامية.
ولفهم الآلية التي عملت بها هذه الطرق الصوفية يلجأ الكاتب إلى مفهومي «الكاريزما» و«الأخوية» لفيبر، لكنه لا يسلّم بهما كما هما بل يقوم بإجراء تعديلات خاصّة على هذين المفهومين بعد نقدهما؛ لإكسابهما قدرة تفسيرية تسمح بفهم كيف أدّت الطرق الصوفية مهمتها في تلك الفترة.
المدنية السائلة
بعد هذا التأسيس المفاهيمي ينتقل سالفاتوري إلى استخدام هذه العُدة المفاهيمية وتطبيقها على الفترات الوسيطة في عُمر الحضارة الإسلامية، محللاً مجموعة متداخلة من القوى والخطابات الاجتماعية التي أدت إلى تشكل العمران الإسلامي؛ فقد أسهب سالفاتوري في تحليل الرابطة التي تميز التدين الصوفي باعتباره أخوية دنيوية شبه تعاقدية تخلّت عن الحلول المقدّس الذي يميز روابط تشكل المؤسسات في فكر ماكس فيبر.
يرى سالفاتوري أن أنماط المدنية في «المعمورة الإسلامية» كانت في طريقها للتحول إلى أنماط معينة من الحداثة عبر مأسسة السلطة وعقلنتها وزيادة كفاءتها
يشير الكاتب في هذا السياق إلى أن القداسة أو الارتباط الروحاني لم يتسرب إلى العلاقة بين الأخ وأخيه في الطريقة الصوفية، بل أمّنت حلقات الذكر والرقص والشعائر نوعًا من التماسك سمح بانتشار هذه الطرق بين روابط التجار والحرفيين والزراعيين وقيامها بمهمات التمدين وإنتاج المعرفة والدعوة والتجارة والتسلح العسكري بطريقة متجاوزة للمحلية، وقادرة على التفاعل السلس والمتماسك مع البيئات الجديدة، وفي منافسة أي أوضاع قائمة أو متحللة.
يرى سالفاتوري أن الطُّرق الصوفية أسهمت في تغيير مسار الحلقة الخلدونية؛ حيث كانت قادرة على استثمار العصبية القبَلية في إنشاء الدول في مرحلة ما بعد الغزو المغولي.
لكنها في نفس الوقت كانت قادرة على تجاوز هذه العصبيات، وتأسيس نوع أكثر ديمومة من المدنية عبر مشاركتها الدائمة في إنشاء السلطة من أسفل إلى أعلى عبر طرق عديدة، مثل نظام «الفُتوّات» على سبيل المثال أو المشاركة في المجهود العسكري عبر عناصر غير قبلية مثل إنشاء وحدات الإنكشارية في الجيش العثماني.
هذا التوتر أو العلاقة الجدلية بين العصبية القبلية ومكونات الاجتماع المدني أدى – بحسب سالفاتوري – إلى بروز طبقة الحكام العسكريين وطبقة العسكريين الحكام التي سعت إلى تعزيز سلطتها عبر السماح بمشاركة أوسع للعامة وروابط التجار والحرفيين والمزارعين.
كما أدت هذه السيولة في علاقات السلطة / المجتمع إلى تحريك موقف طبقة العلماء من طبقة مسؤولة عن إنتاج اللغة المعيارية الفقهية والقانونية إلى المشاركة في إدارة وتفعيل مؤسسات وسيطة أسهمت في تغيير شكل العلاقة بين السلطة والمجتمع عبر إدارة أشكال وهياكل اجتماعية ما فوق مؤسسية مثل الوقف والالتزام والمشاركة في تنظيم وقيادة المجهودات العسكرية.
يشير الكاتب كذلك إلى أن التشكيلات البدوية المغولية والتركية التي كان لها الدور الأبرز في تفتيت مركزية السلطة في العالم الإسلامي دفعتها رغبتها في المشاركة في المنافع التجارية إلى زيادة ارتباطها بالأمة الإسلامية وتبني الإسلام ليس كالتزام عقدي فحسب إنما كلغة معيارية متجاوزة للإقليم.
حيث أصبح كونك مسلمًا مرادفًا للعالمية، بما يعني الاعتراف بك كشريك كامل في تداول السلع والناس والأفكار وطرق التداوي على امتداد نصف الكرة الأرضية على طول طريق الحرير.
على طريق الحداثة
يرى أرماندو سالفاتوري أن أنماط المدنية في «المعمورة الإسلامية» كانت في طريقها للتحول إلى أنماط معينة من الحداثة عبر مأسسة السلطة وعقلنتها وزيادة كفاءتها لولا أنها اصطدمت بمسار الحداثة الغربية الأكثر إبهارًا، والتي استفادت من الفتوحات الجغرافية الجديدة، وديناميات التفاعلات العابرة للأطلسي.
أي أن الحداثة في المعمورة الإسلامية تم إجهاضها عبر فرض نمط خارجي عليها على طريقة الدول الوستفالية الناشئة في الغرب طوال مرحلة الاستعمار والدول ما بعد الاستعمارية.
يلجأ الكاتب إلى تحليل ثلاث تجارب شملت أرجاء المعمورة الإسلامية لرسم معالم هذه الحداثة المجهضة، ولكسر مسلّمة الاستثنائية الغربية. هذه التجارب الثلاث هي الإمبراطورية العثمانية، ومملكة مغول الهند، والدولة الصفوية.
ويرى سلفاتوري أن أهم دلالات هذه الحداثة الناشئة تمثّلت في ظهور حركات طهورية سلفية تدعو إلى العودة إلى معيارية موحّدة وهي سيرة وأفعال النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، أو «الحديث» سواءً من داخل الحركات الصوفية نفسها، أو من حركات أو أخويات مشابهة مثل الحركة الوهابية.
وقد برزت هذه الدعوات والحركات كمحاولة لنقد وكبح جماح السيولة التي أصابت معادلات السلطة – المعرفة التي أنشأتها الطرق الصوفية على طريقة الحركات التطهرية البروتستانتية في العالم الغربي.
قريبًا من مواقع السلطة في الإمبراطورية العثمانية تأثر البلاط الحاكم تأثرًا كبيرًا بأعمال ابن خلدون، وقد حرصوا على تجاوز حلقته المفرغة عبر تجاوز العصبية القبلية بالاعتماد على جيوش المماليك والانكشارية، وتأسيس ما يُسمى بدائرة العدل العثمانية مقابل نظرية اللفياثان الهوبزية.
في الختام يرى الكاتب أن اللغة المعيارية المتجاوزة للمحليات التي سادت في المعمورة الإسلامية هي التي أفشلت مشروع الدولة الوستفالية المستوردة، وأبقت على حيوية إسلامية ممتدة لدى كل الأفكار والحركات على طول ما يسمى بالعالم الإسلامي .
رابط المقال :